إعلان

"إنجرليك"... أكبر من مجرد قاعدة عسكرية

محمد جمعة

"إنجرليك"... أكبر من مجرد قاعدة عسكرية

محمد جمعة
09:01 م الخميس 23 يناير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

محمد جمعة

لدى الولايات المتحدة قواعد عسكرية منتشرة في العديد من دول الشرق الأوسط، لكن القليل منها اليوم بنفس أهمية وضخامة منشآتها في تركيا... على الأقل من حيث أهميتها السياسية، إن لم يكن من حيث وظيفتها ومهامها العسكرية المباشرة.

في شهر ديسمبر الماضي توعد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الولايات المتحدة الأمريكية بالرد في حال فرضت الأخيرة عقوبات جديدة، ووصل الأمر بالرئيس التركي إلى حد التهديد بطرد القوات الأمريكية من قاعدة "إنجرليك" الجوية، وإغلاق قاعدة رادار "كورسيك".

من وجهة نظر عسكرية أمريكية، فإن خسارة "إنجرليك" و"كورسيك" لن تكون نهاية العالم، حيث يمكن لواشنطن أن تجد بسهولة مواقع بديلة في أماكن أخرى من الشرق الأوسط. ومع ذلك، فإن حدوث أي انفجار للعلاقات (إذا حدث) قد يكون له عواقب بعيدة المدى، ربما يؤدي إلى تعجيل برنامج الأسلحة النووية التركي، والذي يمكن أن يكون بمثابة صافرة الانطلاق لسباق التسلح النووي في المنطقة.

معروف أن قاعدة "إنجرليك" كانت مرادفًا للوجود العسكري الأمريكي في تركيا منذ بداية الحرب الباردة. حيث استخدم الجيش الأمريكي في البداية القاعدة الجوية (التي بناها سلاح المهندسين في الجيش الأمريكي بالقرب من ساحل البحر الأبيض المتوسط أوائل الخمسينيات من القرن الماضي)؛ للقيام بمهام استطلاع استراتيجية وعمليات استخباراتية أخرى ضد الاتحاد السوفييتي وحلفائه، قبل تحويل المنشأة إلى موقع رئيسي للنقل والتدريب الجوي.

وخلال العشرين عامًا الماضية، وفرت "إنجرليك" قاعدة للتزود بالوقود الجوي خلال الغزو الأمريكي لأفغانستان، وعملت كنقطة توقف للقوات الأمريكية المشاركة في حرب العراق أثناء انتقالها من وإلى الأراضي الأمريكية... أما اليوم، فتعد "إنجرليك" القاعدة الأمريكية الرئيسية للغارات الجوية ضد داعش.

وفي الوقت نفسه، تم تأسيس "كورسيك" عام 2012 في شرق الأناضول، وتم نشر رادار AN / TPY-2 كجزء من نظام الإنذار المبكر لحلف الناتو ضد هجمات الصواريخ الباليستية المحتملة على أوروبا.

بالتأكيد لا تسعى الولايات المتحدة إلى ما يؤدي إلى فقدانها للقاعدتين – "إنجرليك وكورسيك" – خاصة، وأن الحرب ضد داعش لم تنته بعد، وفي وقت تواجه فيه القوات الأمريكية احتمالات الانسحاب من العراق، الأمر الذي من شأنه أن يعقد أي جهود للحفاظ على وجودها في سوريا. والأكثر من ذلك، أن التوترات مع إيران لا تنتهي، ما يزيد من أهمية شبكة الدفاع الصاروخي الباليستي الأوسع التي تحمي أوروبا.

ومع ذلك، يمكن تعويض "إنجرليك"، و"كورسيك" بسهولة... فلدى واشنطن العديد من الحلفاء في الشرق الأوسط الذين يسعدهم تقديم قواعد جوية كبدائل، بما في ذلك الأردن، والتي لن تكون فيها الطائرات الأمريكية بعيدة كثيرًا عن المناطق الموجودة في سوريا والتي تقع على مقربة من "إنجرليك"... أيضا لدى واشنطن بدائل في أوروبا، مثل اليونان، التي تتفاوض بالفعل مع الولايات المتحدة؛ لتوسيع نطاق تواجد القوات الجوية الأمريكية هناك.

أما بالنسبة لـ"كورسيك"، فيمكن للولايات المتحدة أن تخفف من خسارتها من خلال القيام بدوريات إضافية مع مدمرات مسلحة بدفاعات صاروخية باليستية في شرق البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود حتى يتم بناء موقع بديل آخر في أوروبا الشرقية.

وبناء عليه فإن التداعيات الأهم لفقدان القاعدتين هي تلك المتعلقة بالمسألة النووية! فطوال الحرب الباردة وحتى الآن أدى وجود نحو 50 قنبلة نووية أمريكية B61 إلى نجاح الولايات المتحدة الأمريكية في ضرب عصفورين بحجر واحد... فمن ناحية امتدت مظلة الحماية النووية الأمريكية لحلفاء الناتو مثل تركيا. ومن ناحية أخرى تم إقناع أنقرة بعدم جدوى مواصلة برنامجها للأسلحة النووية الخاص بها، والاكتفاء بتلك المظلة الأمريكية.

الآن يؤدي التهديد بسحب هذه المظلة من خلال سحب السلاح النووي من "إنجرليك" نتيجة إغلاقها، إلى تحفيز تركيا على متابعة برنامجها للأسلحة النووية، خاصة وأن أردوغان سبق له أن انتقد منذ فترة فكرة أن "الدول المسلحة نوويًا تتحرك لمنع تركيا من الحصول على أسلحة نووية خاصة بها". وسوف تكتسب تلك الأفكار زخمًا خاصًا في أوقات تكون فيها تركيا على خلاف مع إسرائيل (كقوة نووية) أو أن تستأنف إيران برنامجها النووي الخاص، وقد تعتمد المملكة العربية السعودية فكرة تطوير قنبلة خاصة بها أيضا. أيضا قد يحفز ذلك دولًا أخرى، مثل اليونان، على متابعة برامجها الخاصة، مما يزيد من زعزعة استقرار التوازن الهش في المنطقة.

بل وقد يمتد أثر سحب الأسلحة النووية من "إنجرليك" إلى نطاق واسع يشمل حلفاء الولايات المتحدة في مناطق أخرى من العالم، بحيث يبرز التشكيك في جدوى الترتيبات طويلة المدى الخاصة مع واشنطن، ومن ثم تتغذي الدعوات المتزايدة للاستقلال الذاتي النووي في أماكن مثل كوريا الجنوبية التي تواجه تهديدًا نوويًا متزايدًا وسط مخاوف من مستقبل الوجود العسكري الأمريكي في بلادهم.

باختصار، إنجرليك، من حيث المعنى السياسي والاستراتيجي (وليس الوظيفة العسكرية المباشرة) أكبر من كونها قاعدة عسكرية، ولهذا فإن ما سيحدث بها لن يقتصر أثره على علاقة تركيا بالولايات المتحدة الأمريكية، أو حلف الناتو، بل سيمتد إلى خارج نطاق منطقة الشرق الأوسط كلها؛ ليشمل مناطق أخرى من العالم.

إعلان