إعلان

العادي والمتخيل وما بينهما من تصاريف البشر..!

د.هشام عطية عبدالمقصود

العادي والمتخيل وما بينهما من تصاريف البشر..!

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 06 سبتمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

1- يوم عادى جدًا
هبط من العربة الصغيرة التي توقفت فجأة، صائحًا متوجهًا نحو سائق الميكروباص، الذي ربما أغلق عليه الطريق، أو توقف أمامه استجابة لإشارة من شخص على الطريق! ظل سائق الميكروباص جالسًا في مكانه غير مهتم، حتى اقترب ذلك الرجل القصير منه متلفظا بشيء، هبط السائق مسرعا حتى لتخال أنه كان واقفا على الأرض لم يبارحها، وأخذ يلكُمه ويركُله بقوة وتواصل، وكان الرجل مستسلما تمامًا حتى إنه لم يحاول مطلقا أن يفعل أي شيء، لم يطلق صوتًا أو حتى يتلاشى اللكمات، ثم بعد أن تعب أو مل سائق الميكروباص من ضربه تركه.
عاد الرجل هادئًا متأنيًا صامتًا إلى عربته التي كان ابنه الصغير بداخلها، تجمع حول كل ذلك كثيرون، وتوقف الطريق، لكن أحدا لم يعتنِ بالتدخل، قبل أن يصعد السائق إلى مقعده، بدأ ركاب الميكروباص يخففون عنه هو المنتصر، لتتوالى جمل: "معلش.. راجل حمار" و"توكل على الله شوف رزقك"، و"أهو خد نصيبه"، دخل سائق الميكروباص، وجلس على مقعده دون رد، وكانت وجوه الركاب في أتوبيس النقل العام الكبير المجاور المتوقف محدقة صامتة وهي تنظر عبر الشبابيك.

2- ما يفعله الملل بالبشر
كانت الأرض قبل انتشار الفنون مجرد طبيعة صامتة، وطبعا تواجد في الزمان الأول بشر قلائل، وكان اكتشافهم جديدَ الأشياء في العالم الذي يحيط بهم هو فنهم الواقعي تماما، يعنى أن يعرفوا مثلا من الحركة والترحال تواجد جبال أو نجوم أو حيوانات أو أراضٍ جديدة، وحينما استهلك البشر الطبيعة عبر السنوات والقرون، وأرادوا التواصل بشكل جديد، وربما نمت طاقة الخيال داخلهم، حفروا، ونقشوا، ولونوا فرسموا، وتسلوا بالفن، هكذا أتخيل على طريقتي نشأة الفن في العالم.

كان السُّراة الأوائل أو فلتقل "جذور الأرستقراطيين الأوائل" هم من توافر لديهم ملل كبير وفراغ لا تحتاجه قوة عمل ليقتاتوا بها، نتيجة قوتهم البدنية أو العقلية أو كليهما، حبتهم بهما الطبيعة، فعمل الآخرون بينما هم يجلسون يشاهدون، ويوجهون، وربما يديرون، فمنحوا العالم فنًا ومللًا كبيرين، صار ميراثا للحياة، أحيانا أفكر كثيرا بذلك، لكن تأمل معي: آدم وحواء وأبناؤهما وجيل الأحفاد الأول كانت الأرض لهم براحا، كيف نشأت الثروة إذا؟
هل فكرت في هذا الأمر؟ عموما هذا أمر عارض جدا في قصتنا عن الفن، يبقى أن الملل والفن صارا معا منذ ذلك الحين ربما هذا هو اليقين في الأمر.

وبعد أن استأنس أجيال الأثرياء والأرستقراطيين التالين بالفنون وهواياتها- والذين لم يعودوا أبدا متعدين، بعد أن ورثوا حلالا- ربوا مع الملل نزقا أكبر وترهات عن أصل لهم بعيد يتجاوز أصل البشر المحيطين بهم، وكان قد تم اختراع المرايا الكبيرة الضخمة ليشاهدوا أنفسهم فيرونها أكبر مما اعتاد الناس العاديون أن يشاهدوا أنفسهم في مراياهم الصغيرة، وحيث لم يكن لغيرهم متسع لملل أو فن، وكان الفنانون المحتاجون يجلسون في قصورهم، وينسخون لهم تلك الفنون كحالات فريدة خاصة، فيحوزونها ويضعونها على الجدران التي لا يراها سوى من ملوا مثلهم كثيرا، فيتباهون وهم أيضا متخمون بملل جم.

كان عامل صغير لديهم يتابعهم دون أن يمنحوه الفرصة ليقترب، يعرفون أنه لو أصابه الملل فلن يجدوا من يعمل لهم أو يُضحكهم أو يرسم لهم أو يصنع لهم مرايا كبيرة، تسلل الولد في الصباح- حين يبدأون نومهم غالبا- فرأى، وقتها جاء مطر عظيم أذاب معه في سريانه الأرضي جبال الملل، فشرب الناس ماء المطر حين كان يمر في أوديتهم، فعرفوا من حينها الملل، وانتقلت لهم عدوى هواية توءمه الفن فانتشر.

إعلان