إعلان

المثقفون وسلاح العزلة

طارق أبو العينين

المثقفون وسلاح العزلة

طارق أبو العينين
09:08 م الأحد 15 ديسمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع


حياة الوحدة مصير كل الأرواح العظيمة، تلك المقولة التي أطلقها الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور تنطبق على نمط من المثقفين اختار العزلة في مرحلة من حياته سلاحًا؛ لمجابهة ظروف قاسية تتفق وإن اختلفت تفاصيلها وملابساتها في ارتباطها ارتباطاً وثيقاً برداءة مناخ العمل الثقافي والفكري التي دفعت قطاعًا من المثقفين لاختيار العزلة والانكفاء على الذات بديلاً عن الاندماج في الأوساط الثقافية والأكاديمية وفى هذا المقال نستعرض ثلاثة نماذج لمفكرين وفلاسفة عظام كانت تلك العزلة بالنسبة لهم ملاذاً آمناً وأخيراً لاستكمال مشروعاتهم الفكرية بعيداً عن صخب وضجيج الواقع اليومي وما يعُج به من صراعات واختلالات ودسائس....

النموذج الأول هو نموذج الفيلسوف الفرنسي العملاق جان جاك روسو الذى شكلت أفكاره إطارًا جامعًا وشاملاً ألهم الثوار الفرنسيين وحفزهم على إشعال ثورتهم التنويرية الديمقراطية العظيمة في مواجهة الإقطاع والكنيسة، فرغم تأثير روسو الهائل في مسار الحياة الفرنسية والأوروبية فإنه اضطر - رغمًا عنه - لاختيار العزلة التامة في نهاية حياته مبلورًا تلك الحالة ومعبرًا عنها في كتابه ((أحلام يقظة جوال منفرد)) بقوله: هآنذا وحيدًا في هذه الدنيا لم يعُد لي أخ أو قريب أو صديق أو صحبة سوى ذاتي، فتلك الحالة انتابت روسو بعدما أحرقت السلطات كتابه التربوي ((إميل)) عام 1762 بإيعاز من الكنيسة، ثم حكمت بالقبض عليه إثر ذلك، ما اضطره إلى الهرب من جنيف؛ خوفًا من الملاحقة، ثم رُجم ونهب منزله الذى فر إليه جراء تلك الملاحقات عام 1765، ناهيك عن المكائد التي دبرها له صديقة الفرنسي القديم الفيلسوف دنيس ديدرو وحملة السخرية والتشهير التي أطلقها ضدة خصمة اللدود فولتير، فكل تلك العوامل قد تضافرت ودفعت روسو إلى حالة عزلة لم يخترها طوعًا، بل فرضتها عليه تلك الأجواء الخانقة؛ ليقول في نهاية حياته لم يعد هناك ما آمله أو أخشاه في هذه الحياة كائنًا مسكينًا تعسًا لكنني صامد...

أما النموذج الثاني فهو نموذج المفكر المصري الكبير، وأستاذ الفلسفة الراحل الدكتور زكى نجيب محمود الذى أشار صراحة إلى عزلته التامة عن الوسط الثقافي والأكاديمي المصري في مقدمة مذكراته بعنوان ((حصاد السنين))، قائلاً إنه وهو يكتب أول فصول تلك المذكرات التي اعتزم أن تكون كتابه الأخير، قد شعر بشيء من حشرجة الأنين يتردد بين جوانحه، إذ شاء له ربه أن يقع في حياته من غدر الأصدقاء ما اهتز له كيانه البشرى اهتزازًا كاد يقتلع جذور شجرة الحياة اقتلاعًا، وهو أمر دفع المفكر الكبير وأستاذ الفلسفة إلى تلك العزلة التي بررها برغبته الشديدة في أن يعتصم بجدران بيته، وأن يوغل فينكفئ على دخيلة نفسه فيجتر من مكنونها ما عساه يطفو على سطح الوعى من ذلك المكنون، إلا أن طبيعة الرجل كانت تدفعه دومًا حسب ما أشار في مذكراته إلى التقاط اللحظات الأليمة الكثيرة التي تعرض فيها إلى إساءات مؤذية ومؤلمة من رجال محسوبين على جماعة المثقفين، سواء خارج الجامعة أو داخلها، إلا أن الكارثي في الأمر هو استغلال هؤلاء لغضب الرجل المكتوم على تلك الإساءات؛ لأنه كان ممن إذا أصابهم سوء جمُدت أعضاؤهم إلى درجة الشلل، ولذلك لم ينطق لسانه بحرف ردًا على أي من تلك الإساءات، بل كان يحس بجفاف لسانه وشفتيه وتفصد جسده بالعرق، وهو ما دفع رفاقه من المثقفين إلى توظيف تلك الحالة ضده؛ ليستغلوه ويستذلوه حسب ما قال، فكان الحل الوحيد من وجهة نظره هو الإسراع إلى ملاذه الأمن في بيته والاحتماء من هؤلاء المعتدين خلف جدرانه....

أما النموذج الثالث والأخير فهو أكثرها شهرة، بل يكاد يكون أيقونة من أيقونات لجوء المثقف إلى سلاح العزلة تحت وطأة الشعور بالظلم والاضطهاد بفعل تفشي حالة الفساد واختلال المعايير داخل الوسط الثقافي والأكاديمي في مصر، وهو نموذج المفكر المصري والعالم الجغرافي الموسوعي الراحل الدكتور جمال حمدان، ففصول وملابسات تلك العزلة رواها بالكامل شقيقة الدكتور عبدالحميد صالح حمدان في كتابه ((صاحب شخصية مصر: ملامح من عبقرية الزمان)) بدءًا من تخطيه في الترقية داخل قسم الجغرافيا، ثم اكتشافه عند انتدابه للعمل بفرع جامعة القاهرة في الخرطوم لجريمة السطو على كتبه ومؤلفاته، التي قام بها أحد زملائه المصريين هناك، بعدما وزع تلك الكتب التي سرقها باسمه على الطلاب السودانيين؛ ليتفاجأ بعد عودته إلى القاهرة بأن نفس الزميل ينافسه على الترقية داخل الجامعة، بل ويحصل عليها قبله فكان قرار جمال حمدان هو الاستقالة من الجامعة واعتزال المجتمع قائلاً: عبارته الشهيرة لا أريد التعامل مع المجتمع ولن أخرج من عزلتي حتى ينصلح حاله، وإن كنت أتصور أن ذلك لن يحدث.....

إعلان