إعلان

أفكار حول حادثة القطار

د. أحمد عمر

أفكار حول حادثة القطار

د. أحمد عبدالعال عمر
09:03 م الثلاثاء 29 أكتوبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

"على خطى غاندي" اسم فيلم وثائقي عن حياة الزعيم الهندي الشهير "المهاتما غاندي"، وهو فيلم جدير بالمشاهدة لنعرف منه كيف تستفيد الشعوب الحية (حكامًا ومحكومين) من تجارب ماضيها والكوارث الإنسانية والسياسية التي تمر بها.

وفي هذا الفيلم قال أحد المؤرخين الهنود عن حادثة اغتيال غاندي على يد أحد المتعصبين الهندوس: "لقد كان اغتيال غاندي نقطة فارقة في تاريخ الهند، صرنا من بعدها أكثر نبلا وأخلاقا".

وهكذا تفعل المحن والدماء وتضحيات الشهداء والأبطال النبلاء في الشعوب الحية؛ فهي تُوقظ بصرها وضميرها، وتشحذ وعيها، وتُقوي جهاز مناعتها الأخلاقي والإنساني والوطني والحضاري، وتدفعها للبحث عن بداية جديدة تتجاوز بها سلبيات وتشوهات وفساد وكوارث الماضي، لتصبح أكثر نبلًا وأخلاقًا وإنسانية وتقدمًا.

وأظن أن الحادث الذي هز ضمير ووجدان المصريين في الأيام الماضية، والخاص باتهام كمساري بقطار 934 الإسكندرية أسوان، بإجبار شابين بائعين متجولين، على القفز من القطار وهو يسير بسرعة كبيرة، بالقرب من مدينة طنطا، لأنهما لا يملكان ثمن التذكرة، وكعقاب لهما على التواجد بالقطار، بالرغم من منع البائعين المتجولين من التواجد فيه، وما أسفر عنه ذلك السلوك غير الإنساني من جانب الكمساري من موت أحدهما وإصابة الآخر، هذا الحادث يجب أن يجعلنا نتوقف قليلًا ونسأل أنفسنا:

إحنا بقينا إزاي كده؟!

وماذا حدث لأخلاق وقيم وإنسانية المصريين؟

والبحث عن الإجابات يجب أن يكون بعيدًا عن صخب مواقع التواصل الاجتماعي، لأنه مسؤولية الجامعات والمراكز البحثية، التي توقف الكثير منها عن القيام بدوره في خدمة المجتمع والدولة الوطنية.

وإن استطاعت هذه المؤسسات تقديم إجابات تُرضي العقل والضمير، يُمكننا بعد ذلك أن نغير (حكامًا ومحكومين) من سلوكنا وأنفسنا وسياستنا وخياراتنا، ليصير هذا الحاث نقطة فارقة في حياتنا، ونصبح بعده أكثر نبلًا وإنسانية وتقدمًا.

ولنعترف بشجاعة وإنصاف- قبل كل شيء- أن مسؤولية السلطة الحاكمة اليوم عن هذا الخراب السلوكي والأخلاقي والقيمي الذي صرنا إليه أقل بكثير من مسؤولية المجتمع بكل فئاته وطبقاته، وأقل من مسؤولية رجل الدين والمعلم والأكاديمي والإعلامي؛ لأنهم صناع الضمير والوعي.

وأغلب هؤلاء قد توقفوا عن القيام بدورهم الحقيقي، وتحولوا إلى مهرجين وأصحاب مصالح شخصية، وتفرغوا للمهاترات والمعارك الصفرية فيما بينهم، ولم يعد لديهم شيء رصين أصيل وصادق ومؤثر يقدمونه للناس.

وفي حقيقة الأمر، فإن أسوأ ما حدث في مصر في العقود الأربعة الأخيرة، والذي نجني ثماره المُرة اليوم هو تدهور الأخلاق والقيم المهنية عند المصريين، وعدم رغبة الكثير منهم في القيام بواجبه المهني والوظيفي، كما ينبغي أن يكون.

ومع هذا التدهور تراجعنا على جميع الأصعدة، وضاعت فيما بيننا قيم الحق، والعدل، والخير، والجمال، وتشوهت حياتنا ومؤسساتنا وسياقات عملنا، بعد أن تشوهت عقولنا ونفوسنا وأهدافنا.

وبعد أن غابت عن حياتنا مفاهيم كثيرة مثل: الضمير المهني، والواجب، والإجادة والإخلاص في العمل، والتعاطف، وخدمة الصالح العام.

وصارت القبلية والشللية والشطارة والفهلوة والانتهازية تتحكم في حياتنا على جميع الأصعدة، ومن أستاذ الجامعة حتى عامل النظافة في الشارع.

والخلاصة أن توظيف هذا الحادث المأساوي سياسيًا قد يحقق بعض المكاسب لخصوم نظام حكم الرئيس السيسي، ولكن هذا التوظيف سوف يكون أيضًا شكلًا من أشكال الفهلوة والشطارة والنصب، وسوف يزيد من مساحة التردي والخراب في حياتنا، لأنه سيمنعنا من البحث عن الأسباب الأخلاقية والثقافية والاجتماعية والمهنية التي أوصلتنا لما أصبحنا عليه.

ولنعترف- لو كنا منصفين- أن نظام الحكم القائم في مصر اليوم حتى لو اختلف معه بعضنا في بعض الخيارات والأولويات السياسية والاقتصادية- هو نظام وطني نزيه، يريد الإصلاح ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وفي حدود معطيات وإمكانات الواقع، وأن ميراث خراب النفوس وفساد الذمم وتشوه العقول، الذي آل إليه من أنظمة الحكم السابقة هو ميراث ثقيل ومتغلغل في المجتمع ومؤسسات الدولة، ولا يمكن القضاء عليه وإصلاحه في وقت قصير.

ولهذا فإن الإصلاح يجب أن يكون أيضًا مسؤولية مجتمعية، وأولى صور هذا الإصلاح أن يصبح كل منا في بيته وأسرته ومكان عمله هو التغيير الإيجابي الذي يريده، عبر قيامه بواجبه وعمله على أكمل وجه.

وتلك هي الأخلاق الحقيقية التي ينصلح بها حال المجتمع، وليس مجرد الأخلاق الدينية التقليدية.

ولهذا قال الفيلسوف الأمريكي "هنري ديفيد ثورو" الذي أثر فكره في الكثير من عظماء العالم مثل غاندي والمناضل الأمريكي مارتن لوثر كينغ: "ليست الأخلاق أن تكون صالحاً فحسب، بل الأخلاق أن تكون صالحًا لشيء ما".

إعلان