إعلان

الوحش الإسلامي ودورة التاريخ بين الأمميّ والهُويّاتيّ

طارق أبوالعينين

الوحش الإسلامي ودورة التاريخ بين الأمميّ والهُويّاتيّ

طارق أبو العينين
09:00 م السبت 12 أكتوبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بناء مجتمع حذر ومتكاتف في مواجهة الوحش الإسلامي، تلك الدعوة التي أطلقها مؤخراً الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في خطاب نعى فيه ضحايا الحادث الإرهابي الذى وقع في باريس يوم 3 أكتوبر، وراح ضحيته 4 من أفراد الشرطة على يد زميلهم المسلم الذى اعتنق أفكاراً إرهابية، وهى دعوة يبتغي ماكرون منها القضاء على إسلام زائف يحمل الموت عبر حشده المجتمع الفرنسي في مواجهة ذلك الوحش الإسلامي المتطرف.

والسؤال المُلح هنا- في اعتقادي- هو: هل تكفي دعوة ماكرون السريعة المقتضبة لمعالجة التراكمات السلبية للخطاب الغربي المتطرف والمتناقض الذى دفع شعوب العالم الثالث، إما إلى إعلان الاستسلام أمام القيم الكونية للمشروع الليبرالي الغربي أو الارتداد مرة أخرى إلى الهوية الدينية والثقافية والصدام مع الآخر المختلف حضارياً وعقائديا؟

أعتقد - من وجهة نظري المتواضعة- أنه إذا كان الأمر يتعلق بالخطاب السياسي والتاريخي الغربي، فإنه يحتاج من ساسة الغرب إلى قدر من التأصيل المنهجي والمعرفي، بعيداً عن ردود الأفعال السياسية السريعة والمقتضبة فارغة المضمون والمحتوى، فبعد نهاية الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي حدث انقسام في هذا الخطاب السياسي والتاريخي الغربي عندما ذاع صيت أطروحتين، أفترض أن كلتيهما متناقضتان: الأولى هي أطروحة نهاية التاريخ للمفكر (الياباني- الأمريكي) الشهير فرانسيس فوكوياما.

أما الأطروحة الثانية، فهي أطروحة الأكاديمي السياسي الأمريكي الشهير صموئيل هنتنجتون المعروفة بصراع الحضارات، فقد افترض أن العالم سيكون بصدد اندماج كونى يوحد خطابة الثقافي والحضاري، تحت رايه الليبرالية، بعدما حسمت الولايات المتحدة معركتها ضد الاتحاد السوفيتي، وقضت على الشيوعية.

وفى المقابل افترض هنتنجتون أن العالم مقبل على ردة تاريخية بخروج الخطاب الثقافي والحضاري من عباءة الدولة القومية الحداثية والارتداد باتجاه الهوياتية المعرفية ذات الطابع الديني والثقافي التي سوف تشعل بالضرورة صداماً حضارياً ينطلق من تعددية منابع المعرفة على الصعيدين الديني والثقافي.

لكن كاتب هذه السطور يعتقد أن التاريخ لا يمكن أن يسير دائماً في خط مستقيم، سواء بالقفز إلى الأمام باتجاه الحداثة ونموذجها الأممي، كما اعتقد فوكوياما، أو الارتداد إلى الخلف صوب الهوياتية والصدام الديني والحضاري، كما تصور هنتنجتون؛ فالعلاقة بين ما هو أممي وما هو هوياتى في تاريخنا الإنساني أقرب إلى نمط الدورة التاريخية منها إلى ذلك النمط الخطى المباشر؛ لأن مبدأ الانفصال أو التضاد التام ما بين النموذجين الأممي والهوياتي في الخطاب الثقافي والحضاري المعاصر هو في الأصل مبدأ زائف على صعيد التاريخ، كما أنه مضلل على صعيد المعرفة؛ فالنموذج الهوياتى عادة ما خرج من رحم النموذج الأممي، كما أن النموذج الأممي عادة ما عزز نفوذ النموذج الهوياتى، وفرض وجوده على الأرض، بما يؤكد صحة فرضية نمط الدورة التاريخية في مواجهة ذلك النمط الخطى.

فلو تحدثنا عن الليبرالية التنويرية كنموذج ثقافي وحضاري أممي، فسنجد أنها كانت سبباً مباشراً في ظهور أكثر الأيديولوجيات القومية الهوياتية تطرفاً، وهى القومية الألمانية التي نشأت تحت وطأة إحساس الألمان بالهزيمة القاسية التي حلت ببلادهم في أعقاب غزو بونابرت لها في بداية الحروب النابليونية التي اندلعت مطلع القرن التاسع عشر تحت لواء نشر النموذج الديمقراطي التنويري الأممي للثورة الفرنسية، وهو ما دفع أصحاب النزعات العقلانية من فلاسفة القرن التاسع عشر في ألمانيا إلى الانقلاب على قناعتهم القديمة في تأييد هذا النموذج الليبرالي التنويري والدعوة إلى قومية ألمانية، ترفض كونية الحداثة، وتتمحور حول وحدة الثقافة واللغة لتتأسس بذلك النزعة القومية الألمانية التي كانت اللبنة الأولى في المشروع السياسي النازي بكل فاشيته وتطرفه ولاعقلانيته.

كما أننا لو تحدثنا، بالمقابل، عن النموذج الهوياتى في عالمنا العربي بشقية الإسلامي المتطرف والقومي العلماني، سنجد أنه- رغم تمحوره حول أزمة الهوية وضرورة مجابهة الغزو الغربي العسكري والثقافي لعالمنا العربي- فذلك لم يحُل دون استدعاء المنطق الأممي، سواء كان انطلاقاً من أممية الإسلام كدين، والتي توظفها زوراً الجماعات الدينية المتشددة في شرعنه خطابها السياسي المتطرف، ومن ثم تبرير حلمها الاستعماري بغزو الصليبيين والفرنجة وقتالهم لتحقيق ذلك، أو انطلاقاً من تبنى الخطاب القومي العربي لأطروحات مرجعية فلسفية وسياسية أممية كالماركسية موظفاً إياها في حشد الجماهير خلف ألوية الاشتراكية في مواجهة أطماع الإمبريالية الغربية ومعسكرها الرأسمالي، كما فعل زعماء القومية العربية طيلة عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم.

ولذلك فمبدأ الانفصال والتضاد التام ما بين الكوني والهوياتى كان- ولا يزال- سبباً في تأجيج هذا الصراع الثقافي والحضاري بين الأصوليات الدينية المتطرفة وبين الغرب بكل ما يحمله الآن من عنف ودموية، ليس فقط لأنه ينافي تلك الدورة التاريخية بين النموذج الأممي والنموذج الهوياتي متجاهلاً هذا الارتباط العضوي وتلك العلاقة العلية بين النموذجين، بل لأنه أيضاً يتمركز على تضاد بينهما لا يعدو كونه مجرد تضاد نظري يُكذبه سلوك ساسة الغرب أنفسهم على أرض الواقع؛ فالنزعة الأممية غذت لدى الغرب أسطورة تفوق الرجل الأبيض ورسالته السامية في نشر الحضارة التي حولها الغرب إلى مبرر تاريخي لممارساته الاستعمارية، فكانت النتيجة هي بزوغ تلك الحركات الراديكالية المسلحة التي ترفض الغرب وحضارته وقيمه الأممية.

كما أن صعود القوى والزعامات الفاشية في الغرب بين الحين والآخر يجعل استدعاء تلك الزعامات لأطروحات الصراع على أساس ديني أو ثقافي مع تنمية مشاعر كراهية المهاجرين لدى مواطنيها أمراً ضرورياً لتبرير وتغطية مواقفها السياسية ومشاريعها الاستعمارية كما فعل ترامب من قبل، وكما يفعل ماكرون الآن بدعوته إلى مجتمع حذر ومتحفظ تجاه المهاجرين المسلمين، بما يفتح الباب أمام انتشار موجات الكراهية تجاه هؤلاء المهاجرين في المجتمعات الغربية لتكون النتيجة هي تنامى موجات الإرهاب الأصولي المتطرف لتسير بذلك الأممية الغربية المأزومة جنباً إلى جنب مع هذه الهوياتية الدينية المتطرفة.

لكن الأمر الأخطر من هذا التضاد المتوهم بين النموذجين هو تلك المحاولات الحثيثة التي يقوم بها قادة الغرب ومنظروه الاستراتيجيون بين حين وآخر لتجسير تلك الفجوة ما بين النموذج الأممي والنموذج الهوياتى، عبر آليه كارثية تنفي هذا التضاد شكلاً، وتستدعيه كمضمون في سياق تأكيد الفوارق الثقافية والحضارية بين الغرب والعرب والمسلمين وتوظيفها سياسياً لخدمة الغرب المتفوق حضارياً ومن ثم تحقيق مخططة الإمبريالي الذى يستهدفنا عبر صراع حضاري على الهوية، يوظف فيه الغرب قيمه الكونية لهزيمتنا بوصفنا الطرف الأضعف الذى يجب أن يُذعن إلى الطرف الأقوى في تلك المعادلة الحضارية، لا في سياق محاولة التواصل الثقافي والحضاري الحقيقي معنا كعرب ومسلمين، بما يذيب تلك الفجوة المعرفية والحضارية بشكل حقيقي ويمنع موجات التطرف والإرهاب داخل المجتمعين العربي والغربي.

ومن ثم يمكن القول- في النهاية- إن الأمر بات يتطلب أن يعيد الساسة الغربيون الاعتبار إلي الطابع الرساليّ للديمقراطية وقيمها القائمة على التعددية والتسامح والتعايش مع الآخر، بعيداً عن اختزالها في مجرد توظيفها سياسياً لخدمة أهدافهم أو مواجهة مخاوفهم المرضية من الإسلام الذى تحول في مخيلتهم إلى وحش أسطوري قادم من عصور سحيقة، لأن هذا التوظيف السياسي معناه تغذية مشاعر الكراهية تجاه المسلمين بشكل عام بما يترتب عليه تصاعد مد الحركات الإسلامية المتطرفة دفاعاً عن تلك الهوية المستهدفة والمحاصرة، ومن ثم تنامى كراهية المجتمعات الغربية للمهاجرين، وبذلك تتحول دورة التاريخ بين ما هو كونى وما هو هوياتى إلى حلقة مفرغة من الكراهية والعنف المتطرف المضاد بين المجتمعات الغربية والمجتمعات العربية المسلمة.

إعلان