إعلان

أصحاب الهمم (15).. من أهم رواد التجديد في تاريخ الشعر العربي "1"

د طارق عباس

أصحاب الهمم (15).. من أهم رواد التجديد في تاريخ الشعر العربي "1"

د. طارق عباس
09:01 م الخميس 10 أكتوبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

منذ جاء إلى الدنيا والتناقضات تحاوطه والأفكار تنقله من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال وبالعكس، فكان على الأطراف في كل شيء عربيا مدافعا عن عروبته في العصر الأموي وناقما على كل العرب ومعيرا لهم بفقرهم ومفتخرا بفروسيته في العصر العباسي، بل قد نجده متمسكا بالتقاليد الشعرية القديمة ثم منقلبا عليها ومتجاوزًا لها، الخلاصة لا يكاد يؤمن بشيء حتي يتمرد عليه، ولا يكاد يتقرب من أشخاص ثم يفارقهم وربما يهجوهم ويسفه أفكارهم وآراءهم، إنني هنا أتحدث عن فحل من فحول الشعر العربي وأبرز أئمته "بشار بن برد بن يرجوخ" معاصر الدولتين "الأموية والعباسية"، وهي مرحلة انتقالية خطيرة في حياة الأمة العربية الإسلامية نتيجة التغير الحاد في الأنماط الاجتماعية التي أفرزها الانقلاب السياسي، وانتقال السلطة من الأمويين إلى العباسيين وما استتبع ذلك الانتقال من احتلال الفرس لأرفع المناصب ليصبحوا سادة العرب في العصر العباسي بعد أن كان العرب سادتهم في العصر الأموي والحقيقة أن كل تلك التناقضات خلقت من بشار شاعرا متفردا، نال اهتمام وتقدير معاصريه من أعلام الشعراء والنقاد والباحثين اللغويين على امتداد الشعر العربي.

مع اقتراب نهاية القرن الأول الهجري وبالتحديد في سنة 95 هجريا يولَد شاعرنا الكبير بشار بن برد بن يرجوخ، المعروف بفصاحته وحسه العميق باللغة العربية رغم كونه من الموالي الفُرس، كان جده يرجوخ من سبي المُهَلب بن أبي صُفرة – والي الأمويين على خرسان من 18 إلى 97 هجريًا – ووُلِدَ له برد أثناء سبيه، ومن هنا كان برد أيضا من رقيق المهلب ثم وهبه الأخير لزوجته "خيرة القشيرية" التي وهبته بدورها لامرأة من بني عقيل أحد فروع قيس عيلان، عندها وُلِدَ له بشار وأشفقت السيدة العقيلية على الطفل؛ لأنه جاء إلى الدنيا مصابا بعاهة العمى، وكذلك أعتقت أباه ليصبحا من موالي بني عقيل.

نشأ بشار في أسرة فقيرة بسيطة الحال، فقد كان أبوه برد يضرب اللبِنَ أيحانا وكانت أمه المدعوة "غزالة " مثل أبيه من رقيق خيرة القشيرية، وكان لبشار أخوان: "بِشر وبَشير" وكانا يعملان في بيع اللحم، ومن الصُدَف الغريبة إصابتهما بعاهتين مختلفتين، فأحدهما كان أعرج والآخر أبتر اليد، ولا بد أن تترك هذه الظروف الصعبة التي عاش شاعرنا تأثيراتها السلبية على حياته، لكنه احتمى بإبداعه بأن جعل كل همه تعلم لغة العرب وإجادتها ربما أكثر من العرب أنفسهم، بل واستطاع أن يجعل من عاهة العمى التي أبتُلِيَ بها نقطة انطلاق لفضاء من التجديد والابتكار في الصياغة الشعرية وصنع صورًا فنية وبصرية متفردة، وقد سُئلَ يوما عن سر هذه الكفاءة والقدرة التصويرية الغريبة بالرغم من أنه لم يرَ الدنيا قط ولا شيء فيها؟ فأجاب بقوله (إن عدم النظر يقوي ذكاء القلب ويقطع عنه الشغل، بما ينظر إليه من الأشياء، فيتوفر حسه وتنبغ قريحته ثم أنشد قوله:

عَميت جنينا والذكاء من العمي فَجِئتُ عجيب الظن للعِلم مَوئلا

وغاص ضياء القلب للعلم رافدا بقلب إذا ما ضَيع الناس حصلا

وشِعر كنور الأرض لاءمت بينه بقول إذا ما أحزن الشعر أسهلا

إن بشار يحاول من خلال تلك الأبيات أن يجعل من عاهة العمى ميزة تمكنه من الانصراف عن الأشكال والمظاهر الخارجية إلى التأمل الباطني العميق في الأشياء واللافت أنه عبر عن مفهوم التأمل باستعماله كلمة "الظن" الذي يقود إلى "العِلم" فإذا كان الناس يرون ظواهر الأشياء بنور أبصارهم، فبشار الكفيف قد تسرب نور بصره إلى قلبه، من أجل أن يمده بالعِلم أي أنه قد استبدله بالبصيرة فكان قلبه أوعي وأحفظ، وإمعانًا في التحدي ينقل دلالة العمي من كونها تخص فاقدي البصر إلى التعبير عن معنى آخر مستعار هو: "الضلال والخطأ"، يقول بشار:

شفاء العمى طول السؤال وإنما تمام العمى طول السكوت على الجهل

فهو كما لاحظنا يريد أن يؤكد أن الشفاء من العمى يتأتى من رغبة الإنسان في المعرفة وسعيه للبحث عنها، أما تمام العمى فيؤصله إصرار المرء على البقاء في جهالة وجَهل، في الحقيقة لقد كَثرت في ديوان بشار تلك الأبيات التي حول فيها عماه لميزة يشرف بامتلاكها بل ويرد أحيانا على من يشككونه فيمن يحب وفي جمال وروعة شكله وقد رد على هؤلاء عندما شككوه في جمال محبوبته التي كان اسمها "عبدة" قائلا هذه الأبيات:

يزهدني في حب عبدة معشر قلوبهم فيها مخالفة قلبي

فقلت دعوا قلبي وما اختار وارتضى فبالقلب لا بالعين يبصر ذو اللُب

ولا تُبصِر العينان في موضع الهوى ولا تسمع الأذنان إلا من القلب

للحديث بقية.

إعلان