إعلان

ناصر عراق.. عندما تصبح السينما مصنعًا للسعادة

د. أمل الجمل

ناصر عراق.. عندما تصبح السينما مصنعًا للسعادة

د. أمل الجمل
09:00 م السبت 05 يناير 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

حالفني الحظ أن أجد الوقت لقراءة العديد من الكتب السينمائية- وبعض الروايات- والدراسات النقدية الصادرة على مدار عام ٢٠١٨، والتي أنقذتني من خواء عوالم وبالونات واشتباكات السوشيال ميديا التي أدمنها الملايين، ولا يستطيعون الإفلات من قبضتها وأسرها إلا إذا كان لدى أحدهم مشروع يُسابق الأيام في إنجازه.

"ذكرى الأب وأثره"
من بين تلك الكتب التي استمتعت بقراءتها «السينما المصرية ٥٠ عامًا من الفرجة.. أفلام لها تاريخ- نجوم خالدون» للروائي والصحافي المصري المتميز ناصر عراق الحائز على عدد من أهم الجوائز العربية عن عدد من رواياته التي لا يخلو بعضها بالمناسبة من أحاديث سينمائية، مثلما لا تخلو لقاءاته مع الأصدقاء من المناقشات السينمائية، فهو يتمتع بذاكرة سينمائية وغنائية محصنة ضد النسيان.
أما كتابه، فصادر عن دار كتاب للنشر والتوزيع، وهو مصنف للفئة العمرية عامG، بموافقة المجلس الوطني للإعلام، بدبي، كخطوة أتمني تطبيقها في تصنيف الكتب المطبوعة بمصر.

يستهل "عراق" كتابه بالإهداء إلى والده اليساري العصامي، والمثقف الذي كان مولعاً بالسينما وفنونها الساحرة. ثم يستعيد علاقته هو بالسينما، وولعه بها، والذي يتضح أنه تشربه من والده وأخيه الأكبر. عبر تقنية الفلاش باك يسرد لنا ناصر عراق لحظات أو قبسات سينمائية من حياته التي قد يراها البعض ذكريات عائلية، لكنها في تقديري تنجح في الجمع بين الخاص والعام، فهي ترسم صورة خصبة للمجتمع في تلك المراحل، ثم سَرعان ما ينتقل المؤلف برشاقة إلى حديثه عن السينما وكيف كانت مصنع السعادة بالنسبة له، ولآخرين.

قيمة برامجية وتثقيفية
تتجسد أهمية الكتاب في نظري في زاوية التناول؛ فالكتاب ينقب في خبايا المجتمع من خلال تأمل مسيرة السينما ونجومها. إنه يضع الأفلام وعددا من النجوم الخالدين في ذاكرتنا على طاولة التشريح لفهم المجتمع وظروفه، وأفكاره، وعاداته، وتقاليده، والأشياء الدخيلة عليه، وأسباب وجود بعض الظواهر الفنية.
فتراه مثلاً يتحدث عن الأجانب ودورهم في السينما المصرية! وعن الاحتلال الأجنبي وتعامله مع ذلك الفن الوليد حينذاك! وعن أثر ثورة ١٩١٩ على السينما! وهل لعبت دورا في تشجيع أو حض المصريين على الإنتاج أم لا، وهل أسهمت ثورة ١٩٥٢ في تطوير فن السينما، أم لعبت دوراً في عرقلته، وكيف عالجت السينما الحروب والثورات وقضايا العمال والأقباط والمثقفين والإرهاب والتعذيب على شاشتها، ثم كيف تعامل نجيب محفوظ مع السينما، وكيف استفادت هي منه.

تتجلى قيمة الكتاب أيضًا- في تقديري- أنه يصلح للتناول في عدد كبير من الحلقات ضمن البرامج السينمائية المنتجة للعرض على شاشات التليفزيون، لمناقشة القضايا السينمائية التي قد تُسهم في نشر الثقافة السينمائية بين الجمهور.
فكل مقال بالكتاب يصلح أن يكون موضوعاً لحلقة كاملة. صحيح لا يتناول جميع الأفلام، لكنه انتقي مجموعة تصلح لأن تكون عينة لدراسة عدد من الموضوعات التي أثارها، خصوصا أنه انتقى مجموعة من الأفلام المتفردة التي تُشكل منعطفاً مهما في تاريخ السينما لمصرية ليقدم قراءة فنية واجتماعية لها من وجهة نظره الخاصة.

ظواهر سينمائية
خصّص الروائي ناصر عراق الفصل الأول من كتابه لتحليل وقراءة بعض الظواهر السينمائية العامة منها مثلاً: ظلال أوروبية في السينما المصرية- ثورة ١٩ في السينما المصرية- كذلك صورة كل من الأم، والعمال، والمسيحيين في السينما المصرية- ليلة رأس السنة والملائكة وحكاية ظل عبدالوهاب في السينما- أفلام الصيف، والإرهاب، وحرب أكتوبر- سينما التعذيب والمعتقلات، وتيمات أخرى متنوعة.

تقتصر ملاحظتي على الكتاب أنه لا يُوَحد أسلوب توثيقه للمراجع؛ ففي بعض الفصول يُوثق مراجعه بنهاية الفصل، لكنه في أجزاء أخرة يُشير إليها في متن النص ذاته، وفي الحالة الأخيرة نجد التوثيق العلمي غائبًا؛ اذ لا يتم ذكر المرجع أو جهة صدوره، أو رقم الصفحة؛ فقد اكتفى عراق بذكر اسم صاحب المرجع أحياناً. لكن في النهاية لا يمكن التعامل مع صاحب الكتاب على أنه باحث سينمائي، فهو يعترف أنه يكتب عن السينما من باب الحب والولع بها، وهذا لا يقلل من أهمية الكتاب، أو قيمة ما به من أفكار وطرح خصب يفتح بدوره النقاش مجددًا حول ظواهر سينمائية، ونجوم لا تزال سيرتها خالدة متجددة.

جمال الرحيل

من أطرف وأجمل أجزاء الكتاب ذلك التصور الذي تخيله عن ليلة رحيل سيدة الشاشة العربية، وكيف استحضر كثيرًا من شخصياتها التي جسدتها على الشاشتين بعلاقتها بالأبطال الكبار معها، فاستجلبهم جميعاً لصحن المسجد، حيث الجسد المنهك ينتظر الخروج الأخير.

الطريف أيضاً أن التصور لم يكن ميلودراميا، ولا كئيبا، لكنه جمع بين خفة الظل والسخرية أحياناً، والحزن الشفيف من خلال التطرق للقضايا المهمة التي حملتها أغلب الشخصيات التي تنكرت في شخصية فاتن حمامة.

ظاهرة عبدالحليم وأسرار الآخرين
أما في حديثه- ضمن الفصل الثالث من كتابه- عن عبدالحليم، فيحاول الإجابة عن تساؤلات منها:
لماذا حقق حليم كل هذا الحضور طوال فترة حياته، رغم أن صوته لم يكن بالقوة التي يتمتع بها مطربون آخرون عاصروه، وحاولوا منافسته لكنهم أخفقوا؟!

يستعين مؤلف الكتاب ناصر عراق أحيانا بآراء المتخصصين، كما فعل في حديثه عن أداء سعاد حسني مثلاً، فاقتبس من تحليل كمال رمزي- ذلك الناقد السينمائي الكبير الذي تميز دون أبناء جيله في تحليل أداء الممثل- فيقول: «شيء ما يتلألأ في روح سعاد حسني، ويظهر جليا على الشاشة. يبدو كأنه سر يصعب إدراكه، أو تفسيره. إنه النبل الخاص الذي يلتمع للحظة في العينين مهما كان إذلال الموقف الذي تعايشه».

ثم- وعلى نهج الاقتباس السابق- يواصل عراق المقارنة بين مشهدين مختلفين من عمل واحد لسعاد حسني في «القاهرة ٣٠» فيقول: «تأمل ملامحها، وهي ترتدي أسمالا بالية، وهي تتذوق الشمبانيا، وتتناول الشيكولاتة في بيت أحمد مظهر، ثم عاين لفتاتها كهانم عندما تزور حبيبها المصاب».

يتضمن الفصل الثالث والأخير حديثاً عن نجوم آخرين مثل أم كلثوم والسر الكبير- محمد عبدالوهاب أبوالحداثة في الفنون- يوسف وهبي- نجيب الريحاني- محمود ياسين- نور الشريف- فاتن حمامة- سامية جمال- شكري سرحان- هند رستم- فؤاد المهندس، أستاذ الكوميديا الأنيقة- محمود مرسي- أنور وجدي- فريد شوقي والإيرادات الأضخم في القرن العشرين.

ثم- وأخيراً- تلك التحية الخاصة التي قدمها مؤلف كتاب "السينما المصرية خمسون عاماً من الفرجة" للفنان إسماعيل ياسين، ولماذا وصفه ناصر عراق بأكبر خواف في السينما المصرية وأجملهم؟!

إعلان