إعلان

مراثي الغريب

مراثي الغريب

د. أحمد عبدالعال عمر
09:00 م الأحد 16 سبتمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

الموت هو الحقيقة الكبرى في حياة الإنسان، والتي أدركها، واحتفى بها المصريون القدماء، فأبدعوا فكرة الخلود والحياة الأخرى، وربطوها بالثواب والعقاب ليجني الإنسان بعد الموت حصاد ما زرعه في حياته الأرضية، بل ذهب بعضهم في عصور الاضطراب والاضمحلال إلى تمني الموت للهروب من حياة قاسية وغير عادلة، واعتباره حرية وعودة إلى البيت القديم؛ ولهذا وجدنا في بردية قديمة مَن يقول: "إن الموت اليوم أمامي مثل نهاية المطر/ مثل عودة رجل إلى البيت بعد رحلة فيما وراء البحار/ إن الموت اليوم أمامي مثل سماء صحو/ مثل شوق المرء لرؤية بيته بعد أعوام من الأسر".

ولم يمنع إيمانُ المصريين القدماء بحتمية الموت وفكرة الخلود والعالم الآخر، الذي يتحقق فيه العدل المفقود في الدنيا، من الشعور بالحزن الشديد على فراق موتاهم، ومعاناة وجع البعاد ولوعة فقد الأحباب، ولهذا أبدعوا في رثاء الموتى، وتعديد مناقبهم وآثارهم، وإثارة دواعي الحزن على غيابهم، من خلال فن "العديد أو "المراثي" الذي كان مقصورًا على النساء، وعرفته الحياة الاجتماعية المصرية عبر كل عصور مصر التاريخية، وبخاصة في صعيد مصر.

وفي كتابه "المراثي الشعبية.. العديد في صعيد مصر"، الصادر عام 1982، أورد الدكتور عبدالحليم حفني حوالى 40 نوعًا من العديد الذي رصده ببحثه الميداني عند نساء الصعيد، مثل: عديد المرضى، والعديد على الزوج، والأخ، والأطفال، وعديد الشباب، وعديد الغُسل والجنازة، وعديد العُروس التي لم تتزوج، وعديد الرجل الشجاع، وعديد الذي مات في الغربة، والمرأة التي مات أولادها، وعديد ذوى السلطة، وعديد الغريق والمحروق والسجين... إلخ.

وقد تميزت جميعها بالقدرة على إثارة دواعي الحزن على الميت من خلال قوة التعبير والتصوير العاطفي والإيجاز الشديد.

وقد توقفت كثيرًا في هذا الكتاب القيم، الذي يحمل بين دفتيه ميراث حزن المصريين الأصيل، عند "مراثي الغريب" الذي مات بعيدًا عن أهله. والذي ربما وصل خبر مرضه إلى أمه أو زوجته أو أخته، فتخشى عليه الموت في الغربة، فتدعوه إلى العودة سريعًا إلى بلده، فتقول:

نادى المنادي وطوح النبوت

روح بلادك يا غريب لا تموت

نادى المنادي وطوح الحربة

روح بلادك يا غريب أبقى.

وعندما يفيض كيل حزنها من تصورها الحبيب الغريب وحيدًا في مرضه، تخاطب بنات جنسها من نساء بحري، لعل واحدة منهن تعتني بالغريب الوحيد في مرضه، فتقول:

بنت البحيرة ما عندكيش نار

قيدي الفتيلة للغريب عيان

بنت البحيرة معندكيش ولوع

قيدي الفتيلة للغريب موجوع.

وعندما يقع المكتوب ويرحل الحبيب، تعاتب المرأة المُوجوعة فقيدها الغريب على أنه لم يمت بين أهله وشيعته الكثيرين، فتقول:

ليه يا غريب ما مت في واديك؟

شيعتك كبيرة يعززوك أهليك

ليه يا غريب ما مت في بلدك؟

شيعتك كبيرة يعززوك أهلك.

وعندما يصل لها خبر موته غريبًا وحيدًا، دون أن يبكي عليه أحد، أو يصرخ لفقده، لا تجد المرأة الصعيدية مفرا من أن تُناشد بنت بحري لتجاملها في فقيدها، فتقول لها:

بنت البحيرة يا لابسه الطرحة

أمانة عليكي تعطي الغريب صرخة

بنت البحيرة يا طالة من الحيطة

أمانة عليكي تعطي الغريب عيطة.

وعندما تسافر تلك المرأة الموجوعة لزيارة قبر فقيدها الغريب تجد قبره مجهولًا، ومهانًا بين القبور، حتى إن البقر يرعى عليه، فأوجعها ذلك، وأخذت تسأل القبر وصاحبه، وهو يجيب على لسانها، فتقول:

قبر مين اللي البقر داسه؟

قبر الغريب اللي فاتوه ناسه

قبر مين اللي البقر هدّه؟

قبر الغريب اللي فاتوه أهله.

ولأن تلك المرأة سوف تعود إلى بلادها، وتترك قبر الغريب وحيدًا من جديد، نراها تخاطب إحدى النساء من بنات بحري القادمات لزيارة قبر أهلها، وتدعوها لزيارة قبر الحبيب الغريب والترحم عليه، كلما مرت عليه، فتقول:

يا طالعة والكحك في كمك

فرقي على قبر الغريب جنبك.

في النهاية، فإن تلك المراثي الشعبية تُجسد، بامتياز، عبقرية الوجدان الشعبي المصري، وبلاغته وقدرته الفائقة على الوصف والتعبير. كما تُجسد ميراث الحزن الجنوبي المتجذر في أرض الصعيد، والذي يجعلنا نقول هناك: "حزن الصعيد فاجر"، بمعنى أنه لا يستحيي، فلا يرحل، بل هو مستبد مقيم..!

إعلان