إعلان

كارلوفي فاري: تكريمات وحيوات شقية وأخرى سعيدة.. وجمهور كثيف

كارلوفي فاري: تكريمات وحيوات شقية وأخرى سعيدة.. وجمهور كثيف

د. أمل الجمل
09:00 م الجمعة 06 يوليه 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

أتذكر أنني قبل عام قرأت خبراً أن المخرج الفرنسي التونسي عبداللطيف كشيش عرض السعفة الذهبية التي حصل عليها عن فيلمه "حياة أديل" - عام ٢٠١٣ في مهرجان كان السينمائي - للبيع في مزاد علني لكي يستكمل مشروع فيلمه الجديد. يومها أصابتني الدهشة في البدء، وتساءلت كيف يُفرط في سعفة كان الذهبية، ثم سرعان ما قارنت بين خيارين إما الاحتفاظ بالجائزة ومعها يتعطل العمل الجديد، ويتوقف المخرج لفترة غير معلومة عن استكمال مشروعه، بكل توابعه من اكتئاب أو إحباط، بسبب تلك الصعوبات المالية، وإما التفريط في الجائزة ومواصلة الحياة التي يحبها الإنسان وهى ممارسة العمل والإخراج السينمائي وإنتاج شريط جديد ربما يحصد جوائز أخري.

تذكرت تلك الواقعة، وما زلت أتذكرها بابتسامة، قبل بداية عرض أي فيلم بمهرجان كارلوفي فاري الثالث والخمسين، فهناك تقليد إذ يتم عرض مشهد ساخر- في الأغلب يجعل القاعة تضج بالضحك - عن الجوائز، وإن كان ظاهرياً يبدو أن المشهد يسخر من الجائزة التي يقدمها المهرجان ذاته - والتي تأتي علي شكل "الكرة الكريستال" التي تحملها امرأة والتي تُمنح أيضاً للمكرمين المختارين الذين قدموا إسهامات بارزة في مجال الفن السابع كل عام - لكني أراه مشهداً يسخر، حتي وإن بدون قصد، من الجوائز بشكل عام، فالأهم هو العمل السينمائي، لأنه هو الذي يبقي ليُسعد الناس علي مر الزمن، بينما الجوائز هى تعبير لحظي قد يُرضي غرور الفنان أو قد يمنحه بعض الثقة، لكنها لا تفيد الجمهور في شيء، وسرعان ما ينساها الناس. القيمة الحقيقية التي يتركها الفيلم هى ما يُخلد صاحبه.

الفكرة وراء كل مشهد - من تلك المشاهد التي حكينا عنها سابقاً والمصنوعة خصيصا للمهرجان - ظريفة وتحمل خصوصية ما، والفكرة تنهض علي أن الشخصية المكرمة في كل عام يتم الاتفاق معها علي أداء مشهد عن الجائزة التي تتسلمها، حيث نرى كل واحد منهم وهو يتخلص من الجائزة "الكرة الكريستال" عندما يقع في مأزق ما، أو يحتاج للمال، وتكون خاتمة الجائزة إما التكسير للدخول إلي البيت وبفتح مغلاقه، أو البيع لتوضع على الرف في انتظار مشتر جديد، أو إلقاءها في صندوق السيارة بيأس عندما لا تجد من يشتريها.

تكريمات للكبار
يُعد المخرج التشيكي ميلوش فورمان أحد أبرز حاملي لواء التجديد الذي شهدته السينما في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات عندما أخذت الكاميرا تجوب الشوارع بعد أن كانت تعتمد على التصوير داخل الاستوديوهات، كما يعد أحد أقطاب "الموجة التشيكية الجديدة" بفترة الستينيات، بل واحداً من أكبر السينمائيين المجددين في تاريخ السينما المعاصرة والذي رحل عن عالمنا من شهور قليلة، لذا لم يكن غريباً، بل ربما كان متوقعاً أن يتم تكريمه من مهرجان كارلوفي فاري الذي يعتبر المهرجان الأهم في أوروبا الوسطي، خصوصا وأن فورمان كان من أهم الداعمين لهذا المهرجان العريق.

تمثل التكريم بعرض اثنين من أفلامه، "غراميات شقراء" و"إلى النار أيها الإطفائيون". عرض الشريط الأول ليلة الافتتاح، إلي جانب تقديم حفل موسيقي في ساحة فندق ترمال - حيث مقر المهرجان - بقيادة الأوركسترا الوطنية يستلهم أشهر الألحان التي عُزفت بأفلام ميلوش فورمان. أما الفيلمان اللذان اختارهما المهرجان لتكريمه فكانا من أوائل أفلامه التي قدمها فورمان في بلده ثم بعدها فُتحت له أبواب السينما الأوروبية والأمريكية، ونال تكريمات من مهرجانات عدة، حيث تميزت أفلامه باقترابها من الواقع الاجتماعي، والتعبير عن القضايا الكبرى، فأثارت من حولها ضجيجًا يصعب نسيانه مثل "أشباح جويا"، "أماديوس"، "طار فوق عش الوقواق"، "فالمونت".

لم يقتصر التكريم على ميلوش، ولكنه كان أحد ثلاثة مكرمين من مبدعي السينما في عصرنا الحديث. فإلى جانب ميلوش تم تكريم المخرج والمنتج والكاتب الأمريكي باري ليفنسون الذي رشح لجوائز الأوسكار عدة مرات ونال حظه منها عن تحفته "رجل المطر".

ينضم ليفنسون إلى قائمة المجددين في المواضيع الإنسانية، وكان أحد الأسماء الكبيرة في هوليوود، ولا يمكن أن ننسى له فيلمه "صباح الخير يا فيتنام"، هذا وقد عرض له المهرجان فيلمه الذي أنتجته شبكةHBO عن فضيحة الاعتداء الجنسي في "ولاية بنسلفانيا "" Paterno.

أما المكرم الثالث فهو الممثل والمخرج تيم روبنز الذي انتهز الفرصة من موقعه بالمهرجان التشيكي وهاجم ترامب، مسانداً رفيقته سوزان سارندون التي كانت قد تم توقيفها نتيجة هجومها على ترامب ضمن تظاهرة تندد بقراره فصل وعزل الأطفال اللاجئين عن عائلاتهم، ما أثار الغضب ضده لأنه بذلك يفرق شمل العائلات ويدمرهم نفسياً.
ومن أبرز أعمال روبنز كمخرج "المهد سوف يهتز" الذي يعد واحداً من أجمل الكوميديات الموسيقية، وكذلك فيلمه السياسي "بوب روبرتس"، من دون أن ننسى أنه عمل كممثل مع المخرج الراحل روبرت آلتمان، ومع الأخوين كوين.

انهيار عائلات وتفسخ العلاقات
عدد غير قليل من الأفلام التي شاهدتها بمهرجان كارلوفي فاري كانت تدور في فلك تفسخ العلاقات الإنسانية، وانهيار العائلات، والآثار التي يدفعها الأبناء جراء ذلك لاحقاً، والدور الذي يلعبه المجتمع بقوانينه في التعجيل بهذا الانهيار، والوحدة والاكتئاب الذي يعيشه الكثيرون وسط عائلاتهم، أو مع شركائهم في الحياة فمثلاً في تظاهرة "آفاق" شاهدت الفيلم الياباني "حافة النهر" عن العنف والإدمان بكافة أشكاله والانحراف الذي يعيشه الأبناء الذين انفصل والداهم. فيلم مؤلم وشديد القسوة وبه مشاهد مضيئة بالإنسانية.
أما مسابقة "شرق غرب" فوجدت بينها ثلاثة أفلام تعالج تلك التيمة أيضاً منها الفيلم الإيراني "أمير" والذي تبلغ مدته ١٠٦ دقائق، ومن إخراج نيما إجليما نرى من خلال شخصية بطله أمير ثلاثة نماذج صديقه علي وعلاقته التليفونية واستهتاره وعدم شعوره بالمسؤولية، وتخليه عن ولده، والزوجة هى ذاتها عندما تأتيها فرصة الزواج والهجرة إلى كندا تتخلي عن طفلها، على جانب آخر تتزايد الحالة النفسية لأخت أمير سوءاً وتصيب نفسها بجروح في ظل إصرار الأسرة علي عدم خروجها، وحبسها بالبيت، بينما أمير غارق في كل تلك المشاكل وهو لا يزال في الثلاثين ويكاد يقتل نفسه بالتدخين، والصمت، ومحاولة إرضاء الآخرين.

أيضاً الفيلم التشيكي "دُب معنا" في عرضه العالمي الأول من إخراج توماس بافليتشيك، بعد قرار الزوجين بيع الكوخ الذي كانوا يذهبون إليه بالغابة للاسترخاء مع أولادهم والجد والجدة تشعر الزوجة بالحزن الشديد وتصاب بحالة بكاء وترفض التوقيع علي الأوراق، في محاولة للتهدئة تتصل بجميع أفراد عائلتها وتجمعهم لقضاء آخر ليلة بالكوخ وهو الزمن الدرامي الفعلي للفيلم يومين، وخلالهما نري الشجار والخناق، والجدل، والسخرية، والعنف الموجه من كل طرف للآخر، ليس فقط بين الأبناء وشركائهم، ولكن أيضاً بين الأم والجدة للحد الذي يصل فيه التراشق بالكتب والألفاظ الجارحة.

أما الفيلم الثالث فهو من الإنتاج المشترك بين التشيك وسلوفانيا بعنوان "لحظات" للمخرجة بيتا باركانوفا فبطلته الرئيسية صبية جميلة تعيش مع جدتها بعد انفصال والديها، ونراها في لحظات قليلة علاقتها المتوترة مع والدتها التي ذهبت لزيارتها، والتي تعانى الاكتئاب، ورغم أن الفتاة تساعد والدها في إنجاز بعض المهام، ورغم أن لديها بعض الإحساس بالمسئولية لكن لا أحد يُدرك أنها تعاني انهيارا نفسيا كبيرا في داخلها لافتقادها عاطفة الأمومة والحياة في أسرة تمنحها العواطف، وهو ما يجعلها تقع في حب سائق شاحنة متزوج ولديه أطفال، فهل تُساعد الطبيبة النفسية في الخروج من أزمتها؟!

علي صعيد آخر نجد أيضاً بالمسابقة الرسمية أربعة أفلام تظهر هذا الجانب - وإن بدرجات متفاوتة في ظل تيمتها الرئيسية - فمثلاً نجد فيلماً من الإنتاج البرازيلي الفرنسي الأرجنتيني المشترك بعنوان "Suenso Florianopolis " للمخرجة آنا كاتز وهو دراما عائلية أثناء رحلة للاحتفال بعيد ميلاد الأم، وكأن الحلم بالعائلة المستقرة المملوءة بالعواطف صار حلمًا بعيد المنال، وربما انشغال المخرجين بانهيار الأسر هو تأكيد على الانهيار الوشيك للعالم طالما كانت الأسرة هى النواة التي ينطلق منها البناء المجتمعي.

كذلك الفيلم الروسي الليتواني الإيرلندي الفرنسي المشترك "جامب مان" أو "رجل القفز" نرى فيه كيف في المجتمع المتخم بالفساد تتخلي النساء عن أطفالهن فيعيشون في الملاجئ، وهناك عندما يقرر أحدهم الخروج للمجتمع يجد نفسه بين خيارين؛ إما الاستسلام والرضوخ للقواعد الفاسدة لهذا المجتمع، وإلا عليه العودة من حيث جاء.

الأمر ذاته يتكرر بأشكال وتيمات مختلفة، حتى وإن كان الانفصال العائلي يبدو أمرا هامشيا بالشريط السينمائي، كما في الشريط المشترك الإنتاج بين إسبانيا وجمهورية الدومنيك الذي يحمل عنوان "مريم تكذب". وكذلك الفيلم التركي الألماني البلغاري المشترك "إخوة". أما "دومستيك" التشيكي السلوفيني المشترك فيرسم خطوطاً متنوعة - رغم التكرار في عدد من المشاهد - ويستحق مقالاً لاحقاً، لكن ما يهمنا هنا أنه أيضاً من خلال رسم تفاصيل الشخصيات يشي بأسباب الانهيار في العلاقات الزوجية وتلاشي الحب للأبد وتحول الإنسان إلي عبد لأفكار معينة.

بعض من الهنات، والتحف
يختتم المهرجان التشيكي فعاليات دورته الثالثة والخمسين - ٢٩ يونيو إلي ٧ يوليو - السبت بعد تسعة أيام من المشاهدات المكثفة في حضور جمهور غفير، حتي أنني وجدت تذاكر عدد من الأفلام وقد نفدت، خصوصاً تلك المعروضة في تظاهرة "آفاق" وكانت سمعتها تسبقها خصوصا عقب عرضها في المهرجانات الكبيرة مثل كان وبرلين، منها مثلاً و"الحرب الباردة" للبولندي بافيل بافليكوفسكي، وشريط المخرج الأمريكي سبايك لي "بلاكلانزمان"، و"شجرة الإجاص البري" لنوري بلغي جيلان، و"ثلاثة وجوه" للإيراني جعفر باناهي، أو "حرق" "برننج" للكوري لي شانج يونج والمقتبس عن قصة قصيرة للكاتب الشهير هاروكي موراكامي، أو الروماني "لا تلمسني" الحائز على جائزة الدب الذهب في برلين الماضي، كذلك التظاهرات الأخرى كانت تضج بالجمهور، فدائما القاعات ممتلئة، وفي أحيان كثيرة كنت أرى الكثير من الشباب والشابات يجلسون علي السلالم ليتابعوا أحداث الفيلم بعد أن يقفوا في طابور طويل لمدة ساعة في انتظار أن يجدوا مكاناً أو فرصة لمشاهدة الفيلم.

رغم التنظيم الجيد للمهرجان، وتنوع أفلامه، لكني لم أفهم لماذا يضع منظمو المهرجان شرطاً يفرض علي الصحفيين ألا يتحصلوا سوي علي ثلاث تذاكر فقط في اليوم؟! لماذا لا تكون أربعة مثل برلين مثلاً، صحيح أن هناك عروضاً للصحفيين بدون تذاكر، وهناك السيناتيك، أي مكتبة المشاهدة على الكمبيوتر، لكن في ظل التكالب من كثيرين علي السيناتيك، وفي ظل الرغبة في الكتابة اليومية وملاحقة الأفلام فهذا يتطلب مرونة أكثر، لأنه لو كنت من الناس الذين يكتبون صباحاً ستفقد حتما أفلام المسابقة المعروضة صباحاً للصحافة، وستكون مضطرا لمشاهدتها مساء بتذاكر، وعندها لن يكون أمامك سوي فرصة مشاهدة فيلم آخر من أفلام التذاكر.

الأمر الثاني اللافت أنه عندما تحجز تذكرة لا تستطيع استبدالها أو إرجاعها ليستفيد بها آخر، وهذا أمر غريب، لأنه من المفترض أن كل شيء يتم تسجيله علي الكمبيوتر، فلماذا لا يتم التعامل مع الأمر بمرونة أكبر خصوصا أنه من الوارد جدا أن يقوم المرء - خصوصا إذا كان صحفيًا أو ناقدًا - بإعادة التفكير والمفاضلة بين فيلم أو آخر لأوليات ما، وهذا يحدث في كل من برلين السينمائي. وكذلك دبي السينمائى، حيث يقبلان بإعادة التذاكر واستبدالها طالما أنه لا يزال باقٍ من الزمن ساعة علي عرض الفيلم.

ومن ناحية أخرى يمكن الاستفادة من التذكرة التي تم استعادتها في شباك التذاكر وتحصد ثمنها من الجمهور العادي.
فمثل تلك المهرجانات تدر دخلاً من شباك التذاكر علي منظميها خصوصا في المهرجانات الكبيرة مثل فينسيا وكان وبرلين، وأعتقد - بعد مشاهدتي للجمهور الكثيف والجمهور الذي ينتظر على أمل أن يجد كرسيًا فارغًا - أن كارلوفي فاري هو أيضاً كذلك.

بقي شأن أخير يتعلق بالسيناتيك، فقد حدث أمر غريب، إذ في اليوم قبل الأخير سألت عن جهاز كمبيوتر فارغ لأستكمل فيلما نفد الوقت قبل استكماله، فأخبزتني الفتاة الشابة بعد فحص الجهاز أمامها أنه لا يوجد أماكن شاغرة، فأخبرتها أنني سأنتظر أمام الباب لعل أحدهم يقوم قبل موعده، وانتظرت ما يقرب من نصف الساعة إلي أن خرج أحد الصحفيين، وكانت المفاجأة أنني عندما دخلت وجدت ثلاثة أجهزة شاغرة،؟ صحيح أن الشباب والشابات الذين يعتمد عليهم المهرجان يعملون بحماس لكن يبدو أن هناك بعض الأمور تفلت منهم أحياناً.

إعلان