إعلان

يا مولانا..  اخلع العمامة !

يا مولانا.. اخلع العمامة !

خيري حسن
08:20 م السبت 19 مايو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يا رب كرمك علينا / يا رب نصرك معانا / ونظرة بعطفك تثبت خطانا / يا رب كرمك علينا.. ونصرك معانا..

ذات مساء من عام 1972، وقف الرئيس محمد أنور السادات - كأي أب - سعيداً بزفاف ابنته. كانت تقف بجواره السيدة جيهان السادات في استقبال ضيوف الفرح، الذي أقيم في استراحة الرئيس بالقناطر الخيرية، ومن بين مئات الشخصيات العامة المدعوة للحفل، لمح «الرئيس» الشيخ سيد النقشبندي، أحد أجمل الأصوات التي صنعت مجد الإنشاد الديني في مصر والوطن العربي. بعد دقائق ووسط الزحام وكلمات التهاني التي تنهال على أسرة الرئيس، أوعز السادات لأحد العاملين في سكرتارية الرئاسة الذين يشرفون على الحفل بأن يأتوا له بالشيخ النقشبندي وبالملحن بليغ حمدي.. ومعهما الإذاعي وجدي الحكيم، وهم جميعاً «معازيم» في الفرح.

بعد دقائق أخرى، كان الثلاثة أمام السادات الذى وجه كلامه لبليغ قائلاً: «عاوز أسمعك مع النقشبندي يا بليغ». سكت بليغ وهز رأسه. ثم نظر السادات إلى وجدي الحكيم بصفته كان مسئولا وقتها في الإذاعة. وقال: «متى نسمع ألحان بليغ تخرج من حنجرة الشيخ يا حكيم»؟ هز الثلاثة رؤوسهم، واعتبروها مجاملة ظريفة من الرئيس في ليل فرح على نيل القناطر.

بعد أيام رن جرس الهاتف في منزل الشيخ. على الجانب الآخر وجدي الحكيم، يطلبه ليزوره في الإذاعة. في الموعد المحدد بينهما كان في مكتبه، طلب منه «الحكيم» التوجه للأستوديو المجاور، حيث هناك بليغ حمدى يجهز أحد الألحان للتعاون معه.

في البداية انزعج الشيخ، وقال: «على آخر الزمن هغني يا وجدي»؟ ابتسم ورد قائلاً: هل نسيت رغبة الرئيس يا مولانا؟ صمت الشيخ. وقال: أظنه كان يجاملنا نحن الثلاثة وقتها. رد: لا.. الرئيس يحب الإنشاد، ويحب موسيقى بليغ. قال الشيخ: أنا لست مطرباً. فقال «الحكيم»: يا مولانا إذ لم يعجبك اللحن لا تقبله. رد الشيخ: ولكن كيف يحدث هذا؟ رد «الحكيم»: هيا بنا نذهب للأستوديو، وأتركك تسمع اللحن لمدة 30 دقيقة، فإذا أعجبك «اخلع» يا مولانا عمامتك وضعها بجوارك. فقال الشيخ: «وإذا لم يعجبنى»؟ رد: لا تخلعها، واجلس كما أنت، وسنترك «بليغ» لألحانه.. ونعود معاً إلى مكتبي هذا نحتسى فنجان قهوة آخر، وبعدها تعود إلى منزلك. قال الشيخ: وماذا سنقول لبليغ؟ رد: سنقول له إن الكهرباء انقطعت في الأستوديو. اتفقنا.. على بركة الله. اتفضل

في الطرقة المؤدية للأستوديو.. تحركا معاً.. باب الأستوديو مفتوح، من وراء الباب «الموارب» تتسلل نغمات ألحان بليغ، الشيخ بدأ ينتبه، يركز، يعدل في عمامته، على أقرب كرسي داخل الأستوديو جلس، «بليغ» مستمر في ألحانه بصوته أحياناً، الشيخ ما زال يعدل في عمامته، مرة ناحية اليسار، ومرة ناحية اليمين. وجدي الحكيم يركز معه. ودون استئذانه تركه وعاد إلى مكتبه، الاتفاق بينهما ما زال قائماً، إذا أُعجب الشيخ باللحن «خلع» العمامة، ووضعها بجواره، وإذا لم يعجبه ظلت العمامة على رأسه.

غادر «وجدي الحكيم» الأستوديو. الشيخ ما زال يهز رأسه، يدندن بصوته. و«بليغ» تتجلى جمله الموسيقية على كلمات «مولاي إني ببابك». بعد 30 دقيقة عاد وجدي الحكيم ليجد الشيخ - من شدة إعجابه باللحن - لم يخلع العمامة فقط ويضعها بجواره، بل إنه «خلع» القفطان الذي كان يرتديه.

وجلس بجلبابه الأبيض يردد: الله.. الله.. يا عم بليغ، ثم نظر إلى وجدي الحكيم الذي وجده فجأة واقفاً بجواره يبتسم، وقال له: «يا وجدي.. بليغ ده جن»، فضحك وجدي. وقال: «البس عمامتك يا مولانا.. الرسالة وصلت".

ليكون هذا اللحن هو بداية التعاون بينهما والذى أنتج لنا ما يقرب من 15 دعاء وابتهالاً من أروع ما قدم الشيخ النقشبندي من أدعية وابتهالات.. والسبب هو رغبة السادات خلال فرح ابنته..

اسمه سيد محمد النقشبندي. ولد في 12 مارس 1921.

ولد في قرية «دميرة» بمحافظة الدقهلية، انتقل مع أمه إلى مدينة «طهطا» بمحافظة سوهاج بالصعيد. بعدما انفصل أبوه عن أمه. وتزوجت أمه برجل آخر، وتركت محافظة الدقهلية، وانتقلت للعيش مع زوجها في الصعيد، وتربى الشيخ هناك، وعندما كبر، عاد إلى أبيه، وكان يعيش معه فترات طويلة، وهذا يدل على إنسانيته، والبر بوالده في أن يكون بجواره، وكان أبوه يحبه كثيراً، فلم يغفل عنه رغم انفصاله عن والدته. كان يحب الفقراء ولا يحلو له الجلوس؛ إلا معهم. حفظ القرآن الكريم وعمره 8 سنوات، تعلم الإنشاد الديني في حلقات الذكر، كان يتردد على موالد الصعيد كلها.. عام 1955 استقر في محافظة الغربية، وذاعت شهرته في مصر والوطن العربي.

من أشهر أعماله «يا رب كرمك علينا. ربنا. ليلة القدر. النفس تشكو. مولاي. أيها الساهر». وصف الدكتور مصطفي محمود صوته بأنه مثل النور الكريم الفريد الذي لم يصل إليه أحد، تزوج مرتين وله من الأولاد ثمانية.

وجاء حبه لمدينة طنطا؛ لأنه كان يزور أباه هناك، ووجد فيها الكثير من أولياء الله الصالحين، ومنهم مقام الشيخ السيد البدوي.

تزوج ابنة خاله، وعاش في طنطا بجوار أولياء الله.. وعندما ذاع صيته في مصر والعالم العربي والإسلامي. وطُلب منه أن ينتقل للعيش في القاهرة حتى يكون بالقرب من وسائل الإعلام والحفلات الدينية. رفض أن يغادر من جوار أولياء الله، وقال أعيش هنا، وسأموت هنا..

مات صغير السن إلى حد ما، فعمره يوم وفاته لم يتجاوز الـ55 عاماً.. عاش حياته كلها لم يعانِ من المرض، وقبل رحيله بـ48 ساعة تقريباً شعر بدنو الأجل، في ذلك الوقت كان وصل للقاهرة من الغربية؛ استعداداً للذهاب إلى مسجد التليفزيون يوم الجمعة 13 فبراير 1976 لتلاوة قرآن الجمعة، حضر إلى القاهرة مساء ليلة الخميس للمبيت عند أخته. بعد صلاة العشاء بدأ يشعر بتعب في الصدر، وحاول الاعتذار للتليفزيون، لكنه فشل في التواصل مع أي أحد من القيادات في ماسبيرو. وبالتالي جاهد مع نفسه وتحمل قدر الإمكان حتى جاء موعد الذهاب إلى التليفزيون، وبالفعل ذهب وقام بأداء التلاوة، وصلى الجمعة وعاد إلى محافظة الغربية بالليل، وأثناء مروره في الشارع المؤدى لبيته شاهد سرادق عزاء كبيراً، فنظر إليه وقال لأحد مريديه وهو يمشى بجواره: كم أرى الجمال في هذا السرادق يا صديقي، تعجب الرجل من قوله، وقال له: لماذا تقول هذا الكلام يا مولانا: رد: لأنني سأموت. انزعج صديقه من قوله، وقال له: العمر الطويل لك يا مولانا.. لماذا تقول هذا الكلام.. أرجوك يا سيدنا الشيخ.. لا تخلع قلوبنا بقولك هذا. تمتم الشيخ.. وواصل سيره حتى وصل إلى بيته، ودخل إلى سريره ونام بعض الشيء بعدما سلم على أولاده كلهم ثم تذكر شيئاً كان يتوجب عليه فعله.. فنهض من سريره، واصطحب صديقه.. ونزل من بيته وذهب يمر على كل الجيران والأصدقاء يسلم عليهم ويودعهم، وكأنه كان يعرف لحظة دنو أجله، وبعدها صعد لبيته مرة أخرى.. في هذه اللحظات شعر بالتعب، تم استدعاء طبيب صديق له.. أجرى الطبيب الكشف عليه وقال له: غداً نذهب لإجراء بعض الفحوصات والتحاليل الطبية في المستشفي..

وفي الصباح ذهب للمستشفي.. كان جسده يحمله بصعوبة، ولكنه متماسك. جاءوا له بكرسي متحرك حتى يجلس عليه لكنه رفض. وقال: أنا أستطيع السير على قدمي، وبالفعل تحرك في الممرات بالمستشفي حتى وصل إلى الحجرة التي سيجلس فيها في انتظار إجراء التحاليل والأشعة، بعد دقائق أغلق على نفسه الباب وجلس ينتظر. دقائق مرت بطيئة، المستشفي أجواؤه مقبضة، أصوات المرضى والزائرين مختلطة مع تعليمات الأطباء والممرضين. كل هذه الأصوات تأتى إليه متداخلة، ويسمعها بصعوبة لأن قلبه - فيما يبدو- أصابه الوهن. اللحظات مرت.. وفجأة وهو على الكرسي الذي يجلس عليه أسند رأسه للخلف.. وتمتم بالشهادة ثم مات.

كان ذلك يوم السبت 14 فبراير 1976 وانتقل الجثمان للقاهرة ليدفن ـ حسب وصيته ـ إلى جوار والدته.. يومها محافظ الغربية عندما علم من بعض المصادر أن الشيخ وهو عائد من القاهرة قبل مرضه وموته مر على سرادق كبير كان مقاماً في الشارع القريب من بيته، وأعجب به؛ فأمر المحافظ بأن يبقى السرادق على حاله. ويقام فيه عزاء الشيخ، وكأنه اختاره بنفسه لنفسه وهو حى. وهكذا هم العاشقون الواصلون المؤمنون الصادقون مع ربهم.. فقلوبهم.. لها عيون ترى ما لا يراه الآخرون.. نعم مات الشيخ.. لكنه ترك لنا رسالة مفتوحة للسماء بصوته نرسلها نحن- محبيه- كل صباح لرب السماء.. بقلوبنا وعقولنا وضعفنا وخوفنا.. وذنوبنا ومعاصينا مرددين ما ابتهل به النقشبندي ذات يوم قائلين: "مولاي إني ببابك/ أدعوك يا رب فاغفر زلتي كرما/ واجعل شفيع دعائي حسن معتقدي/ وانظر لحالي.. في خوف وفي طمع/ هل يرحم العبد بعد الله من أحد/؟ مولاي إني ببابك قد بسطت يدي/ من لي ألوذ به إلاك يا سندي؟.

إعلان