إعلان

بيت أبى.. "قصة قصيرة"

بيت أبى.. "قصة قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 27 أبريل 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يعرفني بيت أبي من بعيد، هذا ليس كلامي، تلك كلمات أبي وأنا أصدقها تماماً، إذ يلح علينا أن نذهب معه في أسفاره الدورية إلى قريته الصغيرة، حيث دار الجد، فنتلكأ بالانشغالات، أو بعمل مهم طرأ، وأخيراً ولمواجهة حرج جم نقول: "ما هو العيد قرب وأكيد حانروح"، ثم يأتي العيد، فنذهب جميعاً، وكما أحب وأنتظر، وحيث لا يتخلف أحد، نسافر إليه وقد سبقنا ونحيا في رحاب صحبته.

كان أبي يقول لنا حين نأتي جميعاً، انظروا: الدار جميعها تفرح بكم، ثم يضيف متيقناً: البيت الذي لا يزوره أهله يحزن ومع مرور الوقت يتهدم.

كنت أضع كلماته تلك أحياناً مع منطق هندسي وعلمي عن عمر البيوت الخرسانية، فتظهر التساؤلات، لكني داخلي كنت أثق تماماً في صحة كلامه، تزداد يقيناً مع الزمن، حتى صرت أبحث عن ضحكة المكان حين أزوره.

يأخذنا أبي في كل موعد لنزور مقابر أسرته، لا يحزن أبداً ولا يبكي، وهو يقول: إنهم يفرحون بزيارتنا، يقولها واثقاً وكأنه يحدثهم، حتى في صباح كل عيد، وبعد انتهاء الصلاة، يذهب بنا نحو مقبرة أبيه والعائلة، وحين يقول البعض وهم يعرفون مدى علمه، هذا يوم عيد؟ ، يبتسم ويقول لهم: نحن فقط نفرح معهم ولو لدقائق، ويسأل مندهشاً كيف يأتي العيد من دون تذكرهم والدعاء؟! انتصر لموقفه طوال الوقت، ولم أشاهده هناك قط حزيناً، أو يبكي، بل يقرأ الفاتحة، وما تيسر من القرآن، ويدير حوار عادي طبيعي مع أقاربنا الحاضرين، تتخلله ابتسامات، ويمضي نحو البيت لنستكمل طقوس العيد.

لم يعد أبي طبعاً يذهب إلى قريته حيث دار أبيه، وهو أيضاً لا يقيم في بيت الأسرة القاهري، فقد توفي منذ سنوات.

غرف البيت جميعها شاهدة على حركته وكلماته، وغرفة نومه التي ذات يوم غادرها ولم يعد إليها قط، لازال حائطها يحمل صورته هو وأمي في يوم زواجهما، وإلى جوارهما باقة ورد كبيرة كعادة الصور في تلك الأيام، يحملها برواز قديم، لم نغيره فقد اعتدناه واعتبرناه جزءاً من تكوين الغرفة، أمي تجلس وهو واقف إلى جوارها وفي أسفل الصورة بخط جميل يظهر كل من التاريخ الميلادي والهجري.

أمي أنست إلى ذات الغرفة، ربما لم يحدث خلال السنوات التالية أن غيرت شيئاً كبيراً، يمكن أن تضيف كرسياً أوسع ومنضدة صغيرة تضع عليها المصحف والمسبحة والمنبة وجهاز الراديو الصغير الذي لا يفارقها، هذا كل شيء .

الغرفة الآن مغلقة، لم تطاوعنا أنفسنا بعد أن مضت أمي أن نفتحها، تذكرت مقولة أبي "لا تهجروا البيوت"، ذهبت وفتحت الباب ببطء، ونظرت إلى الداخل مستأذناً، تدور عيناي بحثاً عن أمي فربما تكون نائمة، أبحث فلا أجدها، أجلس أنتظر فربما صوتها يناديني، لكن لا شيء يحدث، أعرف بالطبع أنها توفيت، لكن شيئاً ما داخلي كان يؤكد لي أنها هنا وأنها حين تسمع صوتي منادياً ستأتي نحوى، وربما بعد أن أداعبها بكلماتي، مشيرا إلى صورة زواجها ستضحك، وتقول "أسكت يا ولا"، بعدها سآخذ يدها في يدي ونسير، حيث أكون قد وضعت كرسيين متقابلين في البلكونة، لنتكلم ونحن نشرب القهوة التي تحبها ثقيلة، وأعدها لها.

صرت لا أحب مكاناً مغلقاً، ولا نافذة مغلقة، أختنق بسرعة، أقول لو أمكنني أن أكسر حائطاً في غرفتي وأواجه الشارع والسماء دون نوافذ لفعلت.

دار جدي وأبي تشكو، أكاد أسمع صوتها من هنا، أتذكر طريقة ترتيب مفاتيح الغرف، تحمل بصمة أصابعه، طريقته في ترتيب الأشياء في الغرف، حتى نتيجة الحائط الورقية التي مازالت تحمل أثر آخر مرة اقتطع منها وريقات الأيام الفائتة عند آخر زيارة له إلى المكان، ثم القلم الذي إلى جوار التليفون، وصورة جدي لأبي وصورة جدي لأمي وصورته هو وأمي جميعها متجاورة تنتصف الحائط الرئيسي.

ذهبت أمس إلي بيت أبي، الذي ضمّنا حياةً ممتدةً أطفالاً وشباباً حتى مضينا نحو منازلنا الجديدة التي تجمعنا وأولادنا، ذهبت إلى بيت أبي، وفتحت نوافذه، وأخذت كرسياً خشبياً ووضعته في البلكونة، وجلست، حييت كل الجيران وكل من يمر في الشارع ويراني، وضعت كوب الشاي على سور البلكونة، وقلت: تفضلوا .. أبي هنا.

إعلان