إعلان

الطريقُ إلى قلبِ الرجلِ كرة القدم

الطريقُ إلى قلبِ الرجلِ كرة القدم

د. براءة جاسم
09:00 م السبت 10 نوفمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

هل جربتَ وأنت جالس في أحد المقاهي أن تحتضنَ مَن يجلسُ بجوارِك؟!
هل جربتَ أن تصرخَ بصوتٍ عالٍ؛ تعبيرًا عن الفرحِ أو الغضبِ وأنتَ في مكانٍ عامٍ وسطَ أشخاصٍ تعرفُهُم أو لا تعرفُهُم؟
ماذا سيظُنُّ الناسُ بك: جُننتَ، غريبٌ، سيبتعدونَ عنك، يخافونَك؟!

يُقالُ أن مِن أكثرِ ما يجذبُ الرجالَ إلى متابعةِ كرةِ القدم أنَّها تُغذِّي لديهِم احتياجاتٍ بشريةً مهمةً جدًا، منها الإحساسُ بالانتماءِ إلى كِيانٍ ما، وأن يعيشَ حالةَ التنافسِ والصراعِ بين معسكرِهِ والمعسكرِ المقابل، فيتمكن من إطلاقِ العِنان للنزعةِ القبليّةِ البدائيّةِ لديه، دون أن يُتَّهمَ بالعنصريّة، لأنّه يمارسُ فعلًا مرفوضًا في جوهرِه، لكنّهُ مقبولٌ اجتماعيًا، في ظلِّ حالةِ تشجيعِ فريقِه الرياضيِّ، ولأنَّ منافسيه من مشجِّعي الفريقِ الآخرِ يمارسونَ الفعل نفسَه كأنه اتفاقٌ ضمنيٌّ على ذلك.
كما أنَّ مبارياتِ كرةِ القدمِ تُعدُّ متنفَّسًا يجعلُهُم يُعبِّرونَ عن مشاعرَ كالإحباطِ والسعادةِ والغضبِ بحريةٍ أكبر، وهي مشاعرُ قدْ يضطرُّون إلى كَبتِها في حياتهمُ اليوميّة لاعتباراتٍ كثيرةٍ. ويستطيعُ الرجلُ أنْ يعبِّرَ عن ذلكَ كلّهِ بطريقةٍ مقبولةٍ مُجتمعيَّا، بل ربَّما يصلُ الأمرُ إلى أن يشعرَ أحدُهُم بأنَّهُ مطالبٌ بإظهار هذه المشاعرِ حينَ يتابعُ المبارياتِ ويشجعُ فريقَه، وعندها يتحولُ فعلٌ مستغربٌ أو مستنكرٌ كتبادلِ الأحضانِ بين الغرباء إلى فعلٍ مقبولٍ، فترى مشجعي الفريقِ الواحدِ يتبادلونَ الأحضانَ عند فوز فريقِهِم بشكل طبيعي. وربما نلاحظُ أن الإعلانات التليفزيونيةِ تعكس هذه الصورةَ كأمرٍ مألوف.

وعندما درَسَ باحثو علمِ النفسِ فكرةَ الانتماءِ والسلوكِ الرياضي في المعلبِ لاحظوا أنَّ المشجعَ يشعرُ أنّهُ جزءٌ من كيانٍ، ووجودُ أفرادٍ حولَه بنفس انتمائه يجعلُهُ يفقدُ إحساسَهُ بذاتِه كفردٍ مُنفصل، فينصهِرُ "الأنا" لديهِ مع الكلّ، وبالتالي ليس من المُستَغرَبِ أن يمارسَ الشخصُ تصرفاتٍ قد لا تكونُ مقبولةً لديهِ كفرد، ولا يقومُ بها في حياتِه العادية كالهُتاف أو الصُّراخ. والأمرُ هنا لا يتوقَّفُ فقط عند التوحُّدِ مع الفريق، بل يمتَدُّ إلى شعورِ المشجّعِ المنتمي بأنَّه جزءٌ مِن فريقِهِ في الملعبِ أيضًا، فإن فازَ فريقُهُ فقدْ فاز هو والعكس بالعكس.

كما توصَّلتِ الدراساتُ إلى أنَّنا كبشرٍ نكونُ ألطفَ سلوكًا مع الأشخاصِ الذين يُشاركونَنا انتماءاتنا (ingroup) ونكونُ أكثرَ حِدَّةً مع من ينتمونَ إلى الفريق الآخر (outgroup) حتى إن لم نعرفْ بشكلٍ دقيقٍ شيئًا عن الطرفيْن.
كما أنَّ المباحَ لمن هم في فريقي مرفوضٌ تمامًا ممن ينتمي إلى الفريقِ الآخر، فمثلًا، قد يصبحُ النقدُ لمن يشاركُني انتمائي مباحًا وإن كانَ قاسيًا، ويصبحُ من منافسي لاذعًا مستفزًا وإن كانَ موضوعيًّا.

وللدكتور (Tomas Chamorro) مقالٌ مهمٌ قال فيه إن الحديثَ عن كرةِ القدم هو أكثرُ من مجردِ نقاشٍ عن لعبةٍ رياضيّة، قد يبدو نقاشًا تافهًا لكارهي هذه اللعبة، ولكنه أعمقُ من مجرد نقاشٍ سطحيّ لأنه يعكسُ بطريقةٍ غيرِ مباشرةٍ قيمَ الشخص واختياراتِه في الحياة، فنجد أحدَهم يقبلُ تحيّز حكَم الملعب لفريقه لمجرد أنّه في مصلحةِ فريقه، في حين أنه يرفض ويشتُم الحكم نفسه إذا ما رآه منحازًا ضد فريقه، وهذه نقاط مهمة تحدّد عقليةَ المشاهد وأسلوب تفكيره.

وربما على المرأةِ أن تحدثَ شريكَها عن كرةِ القدم وأن تنصتَ له جيدا؛ لعلها تعرفُ عنه ما لا يمكن أن تعرفه إلا من كرة القدم.

إعلان