إعلان

تيترس

تيترس

د. جمال عبد الجواد
09:00 م الجمعة 19 أكتوبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تيترس لعبة انتشرت على أجهزة الكمبيوتر في التسعينيات. في هذه اللعبة تتساقط من أعلى الشاشة تكوينات هندسية مختلفة الأشكال والأحجام والألوان: مربعات ومستطيلات وحروف اللغة الإنجليزية إل ويو وتي، وأشكال كثيرة أخرى؛ وعلى اللاعب ترتيب هذه الأشكال بسرعة بحيث تتلاصق إلى جوار بعضها دون ترك فراغات. الصفوف المكتملة بلا فراغات تختفي فورا، لتتيح مساحة إضافية لمواصلة اللعب. على العكس من ذلك، فإن الصفوف غير المكتملة تظل تتراكم فوق بعضها حتى تنغلق الشاشة، ويخسر اللاعب وتنتهي اللعبة.

أتذكر لعبة تيترس كلما شاهدت الطريقة التي نقيم بها المباني في مدننا، فهناك فلسفة واحدة تحكم التخطيط العمراني والبناء عندنا: نكره الفراغ، وسوف نزرع مبنى في أي مساحة خالية تقف في طريقنا.

المعماريون والأخصائيون النفسيون يحدثوننا عن أهمية المساحات الخالية، بحيث لا ينكسر النظر أينما ولينا وجوهنا. البراح ورؤية الأفق البعيد مشاهد تريح النفس وتصفي العقل وتقلل الشعور بالضغط والاختناق الناتج عن ساعات العمل الطويلة التي نقضيها في أماكن مغلقة سيئة التهوية، حتى لو كانت مكيفة. الشمس وضوءها عناصر مهمة لصحة البدن والنفس، خاصة لو شاهدنا الشمس من بعيد في شروقها وغروبها، لا أن نفاجأ بها فوق رؤوسنا.

في مدن العالم الجميلة توجد مساحات خالية كثيرة، ولا يواجه الناس هناك مشكلة البحث عن مكان يقضون فيه يوم الإجازة، فالحديقة العامة المجانية القريبة اختيار متاح دائما. بيوت الناس في كل مدن أوربا أصغر كثيرا من بيوت الطبقة الوسطى المصرية، لكن الناس هناك لا يشعرون بالاختناق في مدينتهم لأن لديهم مساحات عامة جاهزة لاستقبالهم في أي وقت بلا تكلفة؛ أما عندنا فمالم تكن من القلة المحظوظة بعضوية أحد الاندية فسوف يكون عليك أن تنحشر مع الآلاف في واحدة من الحدائق القليلة المتاحة في مدينة كالقاهرة، أو أن تصحب عائلتك إلى قعدة فوق أقرب كوبري، فتجلسون مرصوصون في طابور كأنكم في سرادق عزاء جيد التهوية. سلوكيات المراهقين والشبان الصغار الشاذة في الحدائق وأماكن الخلاء العام تنتج في جانب كبير منها عن عدم اعتيادهم على الوجود في الخلاء وعدم تحليهم بأخلاقه. لعب الكرة والتحرش والدق على الطبول في حديقة الحيوان والأهرامات هو نتيجة للحرمان من الخلاء وليس نتيجة لنقص التربية كما يظن كثير منا.

كل هذا لا يشغل بال المقاولين ومهندسي الأحياء، فهؤلاء يكرهون الفراغ والمساحات الخالية والأرض الخلاء. الميادين الفسيحة، والطرق العريضة، والحدائق، وساحات اللعب كل هذه أرض مهدرة من وجهة نظر المقاولين وموظفي الأحياء، ومن الأفضل أن يقام عليها عمارة أو سوق تجاري يدر ثروة، فالمال هو الشيء الوحيد الجدير بالاعتبار في نظر هؤلاء، أما هدوء النفس والاسترخاء وتمضية وقت الفراغ فهذا دلع سخيف بتاع شوية عيال أفسدتهم الحضارة الغربية والعولمة والتعليم الأجنبي؛ فالأرض ليس لها إلا المباني، وكلما كان المبنى أعلى كلما كان أفضل.

أتجول في أحياء مثل مدينة نصر والمعادي الجديدة زهراء المعادي والمقطم، وكلها أحياء كانت واعدة لكي تكون مثالا للمدينة الإنسانية التي لا تخنق أهلها، فأجدها تتحول بسرعة إلى غابة من المباني المتلاصقة بلا حديقة أو ميدان أو ساحة لعب. بين المباني الكثيرة تتبقى هناك قطعة أرض خالية يمكن أن تصبح حديقة صغيرة، لكن هناك دائما المقاول المفترس والموظف المرتشي، فتفاجأ بمبنى شاهق وقد انزرع في المساحة الصغيرة حاجبا الرؤية والشمس والهواء، جالبا معه العشرات من السيارات المتحركة والباحثة عن مكان انتظار، فيسدون على الناس الشارع، بعد أن سدوا عليهم السماء. في كل حي من أحياء القاهرة واحد أو أكثر من هؤلاء المقاولين المفترسين ومعهم عصابات الموظفين الفاسدين. أسماء هؤلاء غير مهمة، فسمعتهم كالطبل وأسمائهم لها رنين الذهب، ولها وقع مألوف على وزن المنشدي أو حسني السيد أو المندور.

اشتراطات المباني، التي لا يتم احترامها دائما، تقصر البناء على نسبة محددة من مساحة كل قطعة أرض. مطلوب تشريع يمنع البناء في أي منطقة أو حي على مساحة تزيد عن نسبة معينة من إجمالي مساحة أرض الحي أو المجاورة، بحيث تتم إتاحة شوارع أوسع وحدائق أكثر وميادين أكبر، وكفاية تلزيق وخنقة كما لو كان المقاولون والموظفون يلعبون تيترس بحياة الناس وأعصابهم.

إعلان