إعلان

إصلاح التعليم العالي واستكمال المسيرة (الجزء الأول)

إصلاح التعليم العالي واستكمال المسيرة (الجزء الأول)

د. غادة موسى

أستاذ مساعد - كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة 

09:00 م السبت 13 أكتوبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

عادة ما يواجَهُ أيُّ فكر إصلاحي بمقاومة، لكن الأهم أن يكون فكرًا ثم إصلاحيًا.
وإذا كان أي إصلاح يحتوي على التطوير، فليس كله تطويرا مادياً؛ إذ يمس الفكرة نفسها وما وراءها.
وقد حوت كل حركات الإصلاح في مصر، وفي العالم العربي على مكون إصلاح التعليم، ومنظومة التعليم.

وفي هذا الصدد لم تميز تلك الحركات بين التعلم المدرسي والتعليم الجامعي؛ إذ تم استهداف "فلسفة التعليم ذاتها"، والحكمة من وراء التعليم.

والتعليم العالي- كما عرفته منظمة التربية والعلوم والثقافة (يونسكو) هو المتعارف عليه كمرحلة أخيرة من مراحل التعليم النظامي الذي يهدف إلى إكساب الفرد معارفَ ومهاراتٍ وقدراتٍ تمكنه من تنمية ذاته وخدمة المجتمع. فهو- إذن- كل أنواع الدراسات التي تتم خارج الفصول المدرسية، وتتركز داخل مؤسسات أخرى، يطلق عليها الجامعات أو المعاهد أو الأكاديميات أو أية مؤسسات معترفٍ بها، كمؤسسات التعليم العالي من قبل السلطات الرسمية للدولة.

ويفترض أن يكون بداخل تلك المؤسسات كليات وأقسام تركز على حقول معرفية متباينة ومتخصصة.
وقد حفلت خطط إصلاح التعليم العالي في مصر بالتركيز في المقام الأول على مدخلات العملية التعليمية، كالطلاب وهيئات التدريس والوسائل المادية أو ما يطلق عليه "الفضاءات البيداجوجية" كالمباني والمرافق. وتباين الاهتمام في تلك الخطط بالمكتبات والمعامل والمختبرات وورش العمل كمكملات أساسية للمرافق التعليمية في مؤسسات التعليم العالي.
***
ومن اللافت للانتباه أن المصريين القدماء هم أول من اهتم بالتعليم العالي، منذ ٣٠٠٠ سنة قبل الميلاد، باختراع نظام الكتابة من حروب وأرقام يلقنها كهنة المعابد على الطلاب النابهين، وخاصة أبناء الطبقات العليا.

كما قام معلمون، مثل أرسطو وسقراط في اليونان القديمة، بتعليم الفلسفة والعلوم ليقوموا بدورهم بتعليم آخرين. وكان ذلك يتم دون منح شهادات أو وجود فضاء مادي بخلاف المعابد والأروقة. واستقر الأمر أيضا في الهند القديمة، حيث قام علماء الدين بتعليم الهنود التراث الهندي والمعارف الدينية. وكان تلقي تلك المعارف حكراً على الكهنة.

ثم تطور التوجه في العصور الوسطى- وتأثرا بسلطة الكنيسة الدينية والدنيوية آنذاك- إلى أول ظهور للجامعة، وكان في أوروبا من خلال الكاتدرائيات بهدف تهيئة نخبة لحماية المدن وخدمة الكنيسة والدولة ، فكان تدريس علم اللاهوت والقانون والطب. وكانت تهتم بتدريس علوم مساعدة كالنحو، خاصة أن اللغة اللاتينية كانت الأكثر شيوعا واستخداماً، والبلاغة (الوعظ وأسلوب الإقناع والخطب)، وأيضاً الجدل (المنطق والتحليل الفلسفي).

ومع بدايات القرن السابع عشر والثامن عشر تحديداً، اجتاحت أوروبا تحولات فكرية عديدة، وعلى رأسها اضمحلال دور الكنيسة، عقب حركة الإصلاح الديني وزيادة الابتكارات العلمية وظهور ثورة صناعية.

وهي تطورات صحبتها إعادة تشكيل الطبقات الاجتماعية وتطور وسائل الإنتاج وزيادة الحاجة لفهم كيفية التعامل معها ومع البيئة المحيطة بها، ما أدى لزيادة الطلب على التعليم العالي والتوسع في المؤسسات الأكاديمية المتخصصة لتدريس علوم طبيعية جديدة كالكيمياء والجيولوجيا والكهرباء، وعلوم تطبيقية كالهندسة والطب التطبيقي، بالإضافة للعلوم الإنسانية كالاقتصاد والاجتماع والتاريخ.
ولم تكن المنطقة العربية منفصلة عن هذا التطور؛ إذ شهدت إنشاء أكبر ثلاث جامعات هي القرويين في المغرب، والزيتونة في تونس، والأزهر في مصر، بالإضافة إلى الجامعة المستنصرية في بغداد.

وحيث إنه الجزء الأول في سلسلة من المقالات حول إصلاح التعليم العالي، فإنه بنظرة سريعة على مصطلح "التعليم العالي" أجده يحتوي على تمييز نخبوي بوجود تعليم عالٍ أو رفيع وتعليم غير رفيع أو أقل درجة. وهو أمر كفيل بإحداث شروخ معرفية وطبقية داخل المجتمع، وتوجيهه لتحصيل معارف بعينها، دون غيرها للحصول على شهادة إقرار بأن الفرد قد حصل على تعليم رفيع، مقارنة بآخرين، وأنه مستحق لمكانة أرفع مقارنة بغيره. وذلك بعيداً عن حساب تكلفة القيمة التي بذلت في إنتاج هذا الشخص، وإنما فقط بالشهادة التي حصل عليها، بغض النظر عما حصله، وأنتجه من معارف انعكست في الإنتاج.

إن وظيفة التعليم العالي تُجاوزُ فكرة التعليم التقليدي إلى التعلم الذاتي وبناء الفكر. فطالب الجامعة لا يلقن فقط، بل يزيد على ما يحصله من معارف من خلال تحصيل معارف إضافية بمجهوده. وذلك من خلال وظيفة ثانية تعتبر لُب وجوهر التعليم العالي وهي البحث العلمي. ولا يقصد هنا بالبحث العلمي التجارب المعملية فقط - كما هو شائع- وإنما أي تراكم معرفي باستخدام المنهج العلمي الذي هو "الطريق الذي يسلكه الذهن في سبيل إنتاج المعرفة العلمية". أياً كانت تلك المعرفة.

وعليه، ومن المنطقي أن تصبح الوظيفة الثالثة للتعليم الجامعي هي خدمة المجتمع. فالمعارف والبحث العلمي يطوران المجتمع ويستجيبان لاحتياجاته. فمن غير المتصور أن يتطلب المجتمع معارف وبحوثًا تساعده على الفكاك من الفقر وزيادة التشغيل ولا تستجيب مؤسسات التعليم العالي في مناهجها وبحوثها لذلك، وهو ما يعتبر أحد مقومات إصلاح التعليم العالي في أي مجتمع.
فعلى سبيل المثال تحتاج السوق المصرية لمهارات متوسطة، ولكن ذات جودة مرتفعة للاستجابة لاحتياجات المصانع، وهو ما قد يستلزم توجيه جزء من مخصصات صندوق العلوم وتنمية التكنولوجيا للارتقاء بالمهارات المتوسطة الموجودة.
وجدير بالذكر، أنه في الآونة الأخيرة تم ربط التعليم الجامعي ومخرجاته بسوق العمل، ومن خلال خصائص "ما" تتوافر في خريج الجامعة أو ما يوازيها تمكنه من التنافس في سوق العمل.
لكن ماذا لو تغيرت طبيعة سوق العمل؟

وماذا لو تغيرت فلسفة العمل ذاته؟
فماذا سيكون الحل؟

وأين سيذهب من اعتقد أن اقتصاره على جانب واحد من المعارف سيجعله في مأمن من تقلبات السوق؟
وجميع هذه الإشكاليات مؤشر لعنوان كبير هو "النظرة للتعليم العالي" كخدمة استهلاكية.

لقد تغلبت النظرة إلى التعليم على النظرة للعلم، وهو الموجه للمعارف. وإذا تركزت الأنظار على التعليم أكثر من العلم، ينصرف الإصلاح عادة لمكونات التعليم ومنظومته أكثر من مضمونه، بعبارة أخرى إلى أدوات الإصلاح، وليس إلى موضوع وفلسفة الإصلاح.

فالانتقال في فلسفة الإصلاح من النظر إلى التعليم العالي كخدمة استهلاكية إلى إنتاج إنسان بمواصفات محددة (الوعي- والقدرة على التفكير المنطقي- وامتلاك الحدود الدنيا من الثقافة العلمية التي تمكنه من إيجاد أو صناعة الفرص في الحياة، سواء كانت تلك الفرص في شركة أو في الأدب والكتابة أو في الابتكارات والاختراعات)- هو جوهر إصلاح التعليم العالي بمنظومته.
وإلى اللقاء في الجزء الثاني

إعلان