إعلان

أنور عبد الملك: لا تكثر من السكر ولا تكثر من "هيكل"

أنور عبد الملك: لا تكثر من السكر ولا تكثر من "هيكل"

خيري حسن
09:00 م السبت 16 سبتمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

في صباح نهار شتوي ممطر، من عام 2008، قررت ألا أغادر سريري من شدة المطر. كان جسدي يتدثر بـ«البطانية». وصوت المطر يأتيني عبر النافذة. وعقلي يدور فيه أشياء لا أذكرها الآن، والصمت يُخيِّم على الشارع الذي أقطن فيه؛ إلا من صوت المطر المتوالي، والذي يهبط بغزارة شديدة، فجأة جرس تليفوني الأرضي يخترق هذا الصمت الكئيب بصوته المزعج. نظرت بنصف عين على الساعة الملقاة بجواري، وجدتُ عقاربها تشير إلى التاسعة صباحًا. الهاتف ما زال «يرن». أمسكتُ بالسماعة، ومن خلالها جاء صوته الذي أعرفه جيدًا ـ إنه المفكر والفيلسوف الدكتور أنور عبدالملك ـ «1924 ـ 2012» يا ابني.. هل ما زلت نائمًا؟ الساعة بجوارك كام؟ ألم تكن تسألني عن مقومات النجاح؟ هو يسأل. وأنا لا أرد.. ثم قال جملة أخيرة بسرعة خاطفة قبل أن يغلق الخط: «جيل مهبب!» ابقى كلمني عندما تصحو من نومك.. و.. والخط فصل.

طاردت النوم، وأدرت رقمه بعد دقائق، وقلت له: «صباح الخير يا دكتور»، ردَّ وهو يضحك: «صباح الخير يا أستاذ.. هل هذا من العقل، أن تنام حتى الساعة التاسعة؟ يا ابني ألستَ مسلمًا؟»، قلت: نعم. قال: ألم تسمع عن صلاة الفجر؟ سكتُّ وفهمتُ كلامه ـ بالمناسبة هو قبطي ـ ثم أكمل هو حديثه قائلًا: «نهضة الأمم تبدأ من عند طلوع الفجر؛ فإن أنت لم تذهب للمسجد للصلاة، فعلى الأقل تذهب للعمل؛ فالعمل ـ أيضًا ـ عبادة. ألم تقرأ قوله تعالى «وقل اعملوا». والعمل يبدأ من السادسة، وهذا يعني أنك ـ لكي تنجح في الحياة ـ يجب أن تصحو في الخامسة صباحًا. العمل هو الذي يبني الإنسان ويبني الأمم.. وأنا في مثل عمرك، بل وكنت أصغر، قرأت عشرات، بل مئات الكتب، والتحقت بحركات سياسية ثورية، واشتغلتُ موظفًا بـ 18 جنيهًا في بنك من الصباح حتى المساء. وطاردني البوليس بتهمة الانتماء لليسار لمدة عامين.

أما أنت ـ وجيلك ـ تنامون، وتخافون من البرد والمطر والسياسة. هو مازال يتحدث وأنا ما زلتُ أواصل صمتي وأستمع وأنا سعيد بكلامه. ثم أنهى حديثه عبر الهاتف وقال: أنا في انتظارك اليوم السادسة مساء.. ولا تنسَ شراء صحيفة أخبار الأدب الصادرة صباح اليوم، قلت: ولماذا أخبار الأدب؟ قال: نشرت دراسة ترد على افتراءات وتخاريف هيكل التي أطلقها من منبره المسمى «مع هيكل» على قناة الجزيرة ضد اليسار.

وصلت في الموعد المحدد وجدته يسكن في عمارة عتيقة على الطراز الإنجليزي تطل على حديقة الميرلاند بحي مصر الجديدة شرق القاهرة، يعيش بمفرده، بعد ما استقرت ابنته الوحيدة في النمسا، الشقة عادية جدًا، أراها لا تليق بقامة فكرية وإبداعية، وفلسفية يصعب تكرارها في عصرنا الحالي، الأسانسير قديم، ولا يحمل إلا فردين أو ثلاثة.

يسكن بالطابق الرابع، ضغطتُ على «جرس» الشقة، بعد ثوانٍ فتح بنفسه الباب. خيري.. اتفضل، جلست أمامه وبعد ثوان سألني: «أين أخبار الأدب؟»، تصفَّحها بسرعة، وأنا أنظر إليه بدهشة. ثم قال: «هذه الدراسة المنشورة ترد على رأي هيكل في اليسار المصري، فهو لم يكن منصفًا فيما قاله»؛ قلت له: هل حقًا لم يكن الأستاذ “هيكل” غير منصف؟، ردَّ بغضب واضح على ملامحه، رغم تقدمه في السن وقال: هيكل لم يكن منصفًا في شيء مما قال في أفكاره وكتاباته السياسية، ثم قال: أعرف أن أجيالكم لا تعرف شيئًا، فهي تنام حتى الساعة التاسعة صباحًا. وقدموا لكم أمريكا على أنها تمتلك 99 % من أوراق اللعبة، مع العلم أن الصين هي محور العالم والقوى الجبارة الصاعدة.. أنتم جيل يتشرب روح الفرد وتركتم روح الجماعة، مع العلم أن «جوهر الشرق» الذي نحن منه قامت نهضته عبر العصور بروح الجماعة، روح الجماعة التي تحافظ على وحدة وتكامل وتماسك الوطن.

سكت قليلًا عندما جاءت لنا الخادمة وقدمت له فنجان الشاي ثم قال لها قدمي فنجان آخر للأستاذ بدون سكر، رغم أنني أشربه سكر زيادة. أمسكت بالفنجان وبدأت أشرب بصعوبة وفي ذهني أني أمام رجل قضى عمره يبحث عن مصر التي أحبها وعن العدالة التي شغلته وعن الكلمة التي يقولها ليغير بها العالم نحو الأفضل، لقد قام مشروعه الفكري والفلسفي على التأكيد على الخصوصية والهوية وعوامل التماسك القومي والاجتماعي.. والتي من المفترض أن ينتج في النهاية وحدة الوطن. هل انتهيت من شرب الشاي.. قلت: نعم لكنني تجرعته بصعوبة، قال: كثرة السكر خطر، تدمر شرايين القلب.. ثم ابتسم وقال: وقراءة "هيكل" لوحده باستمرار خطر، لأنها تدمر خلايا عقلك السياسية، فلا تُكثر من السكر ولا تُكثر من "هيكل" ثم ضحك حتى ألقى برأسه على الكرسي الذي يجلس عليه، وأنا أنظر من النافذة على شجر حديقة الميرلاند الذي اغتسل بزخَّات المطر التي انهالت عليه منذ الصباح.

إعلان