إعلان

محمود عوض.. ساحر الحروف وعازف الكلمات "2 - 2"

محمود عوض.. ساحر الحروف وعازف الكلمات "2 - 2"

خيري حسن
09:00 م السبت 07 أكتوبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بعد ظهيرة يوم حار جدًا من صيف 2006 رن هاتفي المحمول إنه الأستاذ محمود عوض، كنت أستقل سيارة ميكروباص والسائق يسير بسرعة جنونية على كورنيش المعادي، وصوت الكاسيت يُسمعنا ويُسمع الفضاء حولنا أغنية "كتاب حياتي يا عين ـ ما شفت زيه كتاب ـ الفرح فيه سطرين ـ والباقي كله عذاب"، وهي أغنية غناها المطرب الشعبي الراحل حسن الأسمر في أوائل التسعينيات، وحققت رواجًا شديدًا في سوق الكاسيت.

لكن فيما يبدو أن (الكتاب) ما زال مفتوحًا على العذاب، رغم مرور كل هذه السنوات، وأن الفرح غاب، حسبما أراد سائق الميكروباص أن يُخبرنا من خلال تشغيل الكاسيت على هذه (المناحة) التي يتغنى بها المطرب، خاصة وهو يقول: "كتاب حزين كله مآسي".

ويزداد الحزن حزنًا، كلما أطاح السائق برأسه شمالًا ويمينًا، معبرًا عن حالة الأسى التي بداخله، فيزيد من سرعة السيارة، حتى شعر الركاب ـ وأنا معهم ـ أننا في طريقنا للموت بعدما أظهر لنا أن (المناحة) قد تتحول إلى (جنازة) على يده وعلى أنغام صوت حسن الأسمر.

الموبايل ما زال يرن.. انتظرت حتى يهدأ صوت الكاسيت، فلم يهدأ.. وفي النهاية رددت: مساء الخير يا أستاذنا.. بعد ما استمع لصوتي بصعوبة قال: سأنتظرك اليوم في السادسة بعد الظهر. في الموعد وصلت. وعلى باب مسكنه القريب من كورنيش الجيزة وقفت. بعد دقائق خرج من باب الأسانسير وعلى وجهه ابتسامة عريضة وقال: هيا بنا.. الآن ينتظرنا في أحد الأندية على كورنيش النيل شخصية عربية مثقفة وهو صديق لي.. وأُريدك أن تحضر هذا اللقاء. فرحت جدًا.. ولم أعلن فرحي بالكلام، رغم أن ملامح وجهي كشفت عن هذا.

تحركنا من أمام بيته.. وصلنا إلى الرصيف المقابل لنكون وجهًا لوجه مع نيل الجيزة، تحدثت مع الأستاذ في أمور شتى منها الصحافة والثقافة والسياسة، وهو يستمع ولا يعلق إلا بكلمات قليلة.

لكنني لمحته ينظر بعينيه في سعادة على فتيان وفتيات يجلسون في حالة غرام عاطفي على مقاعد متواضعة وقديمة أرهقها الزمن، وضجرت من كلمات المحبين وحكاياتهم الغرامية المكررة والتي لا تنتهي.

وأثناء كلامي وإنصاته وفي لحظة خاطفة، استوقفَنَا شابٌ عمره يقترب من الـ30 عامًا وقال: الأستاذ محمود عوض بنفسه! كيف حالك يا أستاذنا؟ رد عليه التحية بسعادة ثم قال الشاب: أنا درست في كلية إعلام جامعة القاهرة وكنا أثناء الدراسة نتجمع أكثر من طالب ونترك المحاضرات ونخرج معًا من الباب الرئيسي للجامعة، ونسير بسعادة شديدة حتى نصل إلى بداية كوبري الجامعة من ناحية ميدان النهضة، ثم نقف ونقول: في هذه العمارة يسكن محمود عوض. كنت لنا القدوة والمثل. ابتسم الأستاذ وقال: أين تعمل الآن؟ رد: في محل ألبان! قلت بدهشة مصطنعة: والصحافة يا زميلي! نظر إليّ باندهاش أكثر وقال: «الصحافة كانت زمان، أيام الأستاذ. أما اليوم فلا صحافة ولا إعلام، ولا ثقافة.. ولا مستقبل». ثم سكت. مد الأستاذ إليه يده يصافحه وهو يشعر بالأسى وقال له: "بكرة تتعدل"! ثم ودَّعَنا الشاب يكمل طريقه، وأكملنا نحن طريقنا.

سِرنا حتى وصلنا إلى النادي المتفق عليه لاستقبال ضيفه العربي. بعد ثلاث ساعات من الكلام بينهما والنقاش والذكريات الجميلة التي استمتعت بها، غادَرْنا المكان في طريق عودتنا إلى منزله بعدما ودَّع ضيفه على وعدٍ بلقاء آخر قبل مغادرة الضيف للقاهرة.

في طريق عودتنا قلت له: هل تذكر الشاب الذي التقيناه منذ ساعات يا أستاذ.. طالب الإعلام الذي تحول للعمل في محل ألبان؟ قال: في البداية العمل ليس عيبًا.. لكن تحفظي، فقط على الاستسلام. أعتقد أنه ما كان عليه أن يستسلم مبكرًا، إذا كان صاحب موهبة حقيقية. نعم المناخ سيئ والمحسوبية والواسطة وغيرها من الأمور التي دمرت المهنة تُسيطر على المشهد العام.. وهذا أعرفه جيدًا، لكن في نفس الوقت على كل إنسان ـ في أي مجال ـ أن يرفض الاستسلام، فالتفوق ليس حلمًا وإنما التفوق إرادة وإصرار وتعب ومجهود ومسئولية، ثم وقف دقائق ينظر إلى النيل وهو يقول: وأنا طفل في مرحلة الإعدادية وفي السنة الثانية منها لم أُحقق النتيجة الممتازة التي أرضى عنها ويرضى عنها أبي وأمي.

وذات يوم خرجت ألعب مع أصدقائي.. يومها عايروني برسوبي في ثلاث مواد. عزلت نفسي واعتزلت الحياة.. ولم أخرج ولم ألعب معهم، لاحظتْ أمي ذلك. فنقلتُ هذا إلى أبي، فجلس معي وقال: هذا الانعزال ليس حلًّا. عتابك للأصدقاء وبُعدك عنهم ليس حلًّا. الحل أن تذاكر في العام القادم وتجتهد وتنجح وتتحمل المسئولية ولا تلوم الحظ ولا تجعل أي شيء يمنعك من تحقيق حلمك. في سنة ثالثة إعدادي فعلت ذلك، فتفوقت وحصلت على أحد المراكز المتقدمة في الشهادة الإعدادية على مستوى الجمهورية كلها. قلت: وهل فرح أبوك بهذا التفوق؟ رد وهو يحرك قدميه بصعوبة حتى نواصل السير، للأسف كان المرض قد تمكن منه، ويوم أن جاء البوسطجي يحمل معه خطابًا مسجلًا ومعه شيك بقيمة "25 جنيهًا"، وكان ذلك 1958 وتهنئة خاصة بتوقيع من وزير التربية والتعليم حينذاك كمال الدين حسين، عضو مجلس قيادة ثورة يوليو.. وقفت سعيدًا أكاد أطير من الفرحة.. وأمسكت أمي بالخطاب والشيك من البوسطجي وأعطتهما إليّ.. قلت لها: أريد أن أقدمهما لأبي في حجرته ليفرح معي. ردت: لا.. يا محمود، أبوك مريض وممنوع الدخول إليه. ثم سكتت عندما أحسَّت بالحزن في عيني وقالت: إذن لا تحزن دعني أحاول. وبالفعل دخلت هي بالشيك والتهنئة حجرته ووقفت أنا بجوار الباب. وبعد دقائق خرجت وقالت: أبوك يقول لك: هذا الشيك مكافأتك.. تصرف في فلوسه كيفما تشاء، ثم التفتت لي وهي عائدة إليه مرة أخرى: يا محمود أبوك يقول لك أيضا إنه يشكرك لأنك تعلمت الدرس.

قلت لها قبل أن تغلق الباب في وجهي: هل كان فرحًا بي وبنجاحي؟.. ردت وفي عينيها دمعة سقطت على خدها وقالت: ادعو لأبوك يا محمود واتركه في حاله. ثم سكت الأستاذ قليلًا والتزم الصمت، حتى عبرنا معًا للناحية الأخرى من الشارع في اتجاه مسكنه.. وواصل صمته حتى وصلنا إلى باب العمارة. وأنا مثله صامت.. ثم قلت له قبل وداعه: وهل تركتَ أباك في حاله كما نصحتْكَ أمك ولم تحاول الوصول إليه مرة أخرى حتى يفرح معك بنجاحك وتفوقك.. رد وهو يلقي ببصره إلى السماء ويودعني، بل هو الذي تَركَنا في حالنا وبعد 48 ساعة.. مات.

إعلان

إعلان

إعلان