إعلان

كيف يمكن أن يقودك حدسك لاتخاذ قرارات خاطئة؟

02:15 م الخميس 16 مايو 2019

كيف يمكن أن يقودك حدسك لاتخاذ قرارات خاطئة

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

لندن (بي بي سي)
في مساء الثامن من نوفمبر 2016، وهو يوم إجراء الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الولايات المتحدة؛ لم تكن فرص من راهنوا على فوز دونالد ترامب تتجاوز خمسة إلى واحد، لكن في الصباح التالي، كان هذا الرجل قد نجح في تحقيق نصر حسبه الكثيرون مستحيلا.

لكن ذلك لم يحل دون أن ينخرط الكثير من الأقارب والأصدقاء؛ بل وممن يمتهنون حرفة التكهن والتنبؤ عبر شبكة الإنترنت، في لعبة "ألم أقل لك!"، المتمثلة في ادعائهم بأنهم كانوا يعلمون مسبقاً وطوال الوقت بأن ترامب سينتصر برغم كل الصعوبات والأجواء غير المواتية.

الأمر نفسه حدث، وإن كان على نطاق أقل في نوفمبر 2008، عندما فاز باراك أوباما بالانتخابات، بالرغم من أن فرص فوزه كانت قد بلغت مستوى مرتفعا لامس الـ 60 في المئة، حينما قَبِل ترشيح حزبه الديمقراطي للسباق الرئاسي قبل الاقتراع بثلاثة شهور. ومع ذلك، فعندما ظفر أوباما بالمنصب، ربما كنت أنت من بين من قالوا إنهم "عَلِموا مسبقا" بنتيجة الانتخابات، وتصوروا أن فرص الفوز كانت أكبر بكثير مما حدث بالفعل.

يُعرف ذلك باسم "انحياز الإدراك المتأخر" وهي ظاهرة نجنح فيها إلى النظر إلى الوقائع والاحتمالات بعد وقوعها، أو نميل في إطارها إلى المبالغة في ما كان لدينا من فرص لتوقع الأحداث مسبقا.

ولا تقتصر هذه الظاهرة على الأمور السياسية، فنحن نقع أسرى لها عندما نتحدث عن الطقس مثلاً، فبينما تكون فرص سقوط الأمطار في يوم ما لا تتجاوز 20 في المئة، نجد أحدنا وقد قال بغتة إن السماء ستمطر، وإذا ما حدث ذلك بالفعل، يصبح هذا الشخص فجأة ذا قدرة على التنبؤ بالأحوال الجوية أفضل من الخبراء في هذا المجال! كما تحدث الظاهرة نفسها في المنافسات الرياضية وقاعات المحاكم وأروقة الشركات والمستشفيات.

في الواقع، تشكل ظاهرة "انحياز الإدراك المتأخر" أحد أكثر الموضوعات التي خضعت للدراسة، في إطار ما يُعرف بـ "الفخاخ الخاصة باتخاذ القرار". ويشير هذا المصطلح إلى الأوقات التي يوظف فيها الناس ما يمكن أن يُسمى بـ "الطرق الذهنية المختصرة" لتبسيط القرارات التي يتخذونها عندما لا يكونون على يقين من مدى صحتها؛ وهي القرارات التي تتشوه بفعل "التحيزات المعرفية".

ففي مثل هذه الحالات، نتوقع أحيانا أشياء غير مُرجحة بشكل كبير، ولكنها تحدث. غير أننا لا ندرك أن حدوثها لا يغير من حقيقة أن فرص الحدوث كانت في حقيقة الأمر محدودة من الأصل، وأن وقوعها لا يغير من حقيقة أنه لا يوجد بشرٌ ذوو قدرات خارقة للطبيعة، فيما يتعلق بالتنبؤ والتكهن.

الأسباب والعواقب
يرى خبير الاقتصاد الأمريكي ريتشارد ثيلر الفائز بجائزة نوبل أن الشركات ربما تكون الساحة الأكثر عرضة لأن تشهد ظاهرة "انحياز الإدراك المتأخر" مُقارنة بغيرها.

فقد كشفت إحدى الدراسات عن أن 77.3 في المئة من رواد الأعمال المسؤولين عن شركات ناشئة فاشلة كانوا يعتقدون - قبل أن تفشل شركاتهم - بأنها ستحقق النجاح. لكن بعد أن مُنيت أعمالهم بالفشل بالفعل، قال 58 في المئة من المسؤولين أنفسهم إنهم حَسِبوا في الأصل أن شركاتهم ستنجح، وهو ما يعني أن قرابة 20 في المئة منهم عدلّوا آراءهم، زاعمين أنهم عَلِموا مسبقا بالفشل، رغم أنهم كانوا يتبنون في الأساس توقعات مغايرة.

وفي مقابلة مع إحدى المجلات المتخصصة في عالم المال والأعمال، قال ثيلر إنه إذا قرر رئيس تنفيذي ما أن يراهن على نجاح فكرة بدت له جيدة، ثم جاء منافس له بفكرة أفضل بعد سنوات من ذلك، فإنه غالبا ما سيميل للقول بعد ذلك إن فكرته هذه - التي كان يتمسك بها في البداية - "لم ترق لي في الحقيقة قط!".

ويقول ثيلر إن الحل البسيط لهذا الأمر يمكن أن يتمثل في تدوين كل شيء وإعداد سجل يتضمن تفاصيل الكيفية التي تم بها اتخاذ قرار ما وقت التوصل إليه، حتى يتسنى للشركات استخلاص العبر والدروس فيما بعد.

وأشار إلى أنه من المهم أن يتذكر الجميع حقيقة أن الرئيس التنفيذي للشركة والأشخاص الآخرين الذين اتخذوا قرارا ما معه، اشتركوا جميعا في الافتراضات ذاتها التي استند هذا القرار إليها، "وهي الافتراضات التي قامت في موقف ما على تصورهم بأنه لا يوجد لدى المنافسين فكرة لتقديم منتج مماثل، واستندت في سياق قرار آخر إلى اعتقادهم بأنه لا يُتوقع أن تواجه الشركة أزمة مالية كبيرة".

وربما يجدر بنا هنا التعرف على رؤية كاتلين فوز، أستاذة علم الاجتماع في كلية كارلسون للإدارة بجامعة مينيسوتا، والتي شاركت خلال عام 2012 في إعداد ورقة بحثية تتناول ظاهرة "انحياز الإدراك المتأخر".

وأظهرت الدراسة أنه من بين عواقب الوقوع في براثن هذه الظاهرة، أن نولي الانتباه بشكل قصير النظر لتصورات مفادها بأن ما حدث في الماضي ليس له سوى سبب واحد، مع تجاهل باقي التفسيرات المعقولة لهذا الحدث. كما تتضمن هذه العواقب أن يصبح للمرء ثقة مفرطة في مدى دقة أحكامه.

وتقول فوز إن البعض أكثر عرضة للوقوع ضحية لهذه الظاهرة من سواهم. فعلى سبيل المثال، تقل فرص حدوث هذا الأمر لك، إذا كنت تعمل في مهنة مثل المحاسبة، تسنح لك فيها الفرصة لتلقي الكثير من المعلومات بشكل آني وواضح وفي الوقت المناسب، قبل أن تصدر قراراتك أو تحدد خياراتك.

رغم ذلك يكتنف الغموض الجانب الأكبر من الأنشطة التي تدور في أروقة عالم الشركات والمؤسسات الاقتصادية، وذلك فيما يتعلق بإمكانيات النجاح أو الفشل، وهي أمور غالبا ما ترتبط بعوامل متعددة.

وتقول فوز: "عندما يكون لديك غموض بهذا القدر، يستنبط الناس مسارات عقلية سببية، يعتقدون من خلالها أنه كان بوسعهم توقع حدوث شيء ما قبل أن يقع بالفعل، وهو ما يعني أن لدى هذا الشخص أو ذاك قدرا كبيرا من 'انحياز الإدراك المتأخر'".

ويقول دروب بويد، المدير التنفيذي لبرنامج للتسويق تابع لجامعة سينسيناتي، إن من بين النتائج المباشرة لتلك الظاهرة هو ما يُعرف بـ "التصورات النمطية"، موضحا أنه "يحدث كثيرا في الشركات والمؤسسات الاقتصادية أن يتصور المرء أن شيئا ما سيحدث ثانية لمجرد حدوثه من قبل. ورغم أن هذا يبدو منطقيا، فإن الأشياء قد لا تتكرر في الواقع، ما يجعلك تتساءل عن أسباب عدم حدوث ذلك".

ويضيف أن مسؤولي الشركات يمكن أن يتفقوا على استراتيجية ما لمجرد أنها نجحت من قبل، لكنهم لا يلقون بالا إلى أن الظروف ربما تكون قد تغيرت، سواء من حيث اختلاف طبيعة السوق أو تغير الأشخاص الموكل إليهم تنفيذ الاستراتيجية الجديدة، وهو ما يعني أنه من الخطأ افتراض أن ما نجح في السابق سيحقق النجاح نفسه في المستقبل في كل الأحوال.

كيف يمكن مواجهة هذه الظاهرة وتحسين القدرة على اتخاذ القرار؟
يقول بويد إن من بين الطرق الجيدة لتجنب الوقوع في مثل هذه الأخطاء، أن يضع المرء في اعتباره مختلف التغيرات، وهو يفكر في استراتيجيته الجديدة، وذلك عبر إمعانه التفكير في ما حدث سابقا ولكن مع الحرص على وضع المعلومات الجديدة المتوافرة له في الحسبان، ودمج البيانات الحديثة مع تلك القديمة، قائلا إن ما يتعين على الناس تذكره، هو أنهم يقعون ضحية تحيز أوسع نطاقا حتى من "انحياز الإدراك المتأخر"، يتمثل في ما يُعرف بـ "انحياز الإغفال"، والذي يتمثل في الميل للاقتصار على النظر في الأدلة والبراهين المتوافرة لدينا وحدها.

ويرى بويد أن عواقب "انحياز الإدراك المتأخر" يمكن أن تشمل أمورا سلبية للغاية، من بينها إيهام من يقعون فريسة لهذه الظاهرة، بأن بوسعهم النظر لما حدث في الماضي وتفسير أسبابه، بل وبأن لديهم قدرة على التكهن والتنبؤ كذلك. ويضيف أنه يتعين عليك للتخلص من هذا الوهم، إدراك أنه ليس لديك كرة بلورية ترى من خلالها المستقبل.

ويضيف: "نحاول أن نُعلّم الناس استخدام ما نصفه بطريقة تفكير 'توماس بايز ' (نسبة إلى خبير إنجليزي في الإحصاء من القرن الثامن عشر). وتقوم فرضيات هذا الرجل في هذا الشأن على وضع كل مصادر المعلومات في الاعتبار، مع تحديد قيمة ووزن كل منها. وإدراك أن كون بعضها أكثر قيمة من البعض الآخر، لا ينفي أن لكل منها قيمة ما في حد ذاتها مهما صغرت".
ويضيف أن تحديد الوزن الحقيقي لهذه المعلومات والبيانات بشكل مناسب، يجعل المرء أقرب لاتخاذ القرار الأمثل. وهنا يصبح توقع كل منّا لحدوث أي شيء يستند إلى ترجيح البيانات لذلك، لا إلى اعتقاده أو إحساسه الشخصي.

ويشير بويد إلى أن لدى رجل الأعمال الأمريكي وورن بافيت مثلاً، وصفة يطلق عليها اسم "توظيف القيمة". ويقول إنه بالرغم من أن بافيت "يتبع هذه الوصفة، فإنه يعرف أن احتمالات نجاحه في أي مشروع تبقى على ما هي عليه ولا تزيد بفعل اتباعه لها".

ويضيف: "هذا الرجل ليس ساحرا يحقق النجاح دائما، لكنه يُمنى بخسائر بين الحين والآخر. الناجحون هم من يفهمون المخاطر على حقيقتها، ولا يقومون بمراجعات بعد فوات الأوان".

أما كاتلين فوز فتتحدث عن أسلوبها المفضل لمواجهة "انحياز الإدراك المتأخر"، والذي يُعرف باسم "ضع الاستراتيجية المضادة أو المعاكسة في الاعتبار".

ويتمثل ذلك في أن ينظر المرء إلى الأمر من مختلف وجوهه قبل اتخاذ القرار، وأن يفكر في "ماذا لو أن هذه الاستراتيجية التي سأتبعها لم تمض على المسار الذي أتوقعه؟".

وهكذا يصبح بوسعك - حسبما تقول فوز - أن تتصور كيف يمكن أن يؤدي ما ستفعله إلى نتائج تسير في اتجاه آخر غير ذاك الذي تتوقعه، أو أن تتخيل إمكانية ألا ينجم عن قرارك أي نتائج على الإطلاق. وتضيف أن بلورتك لتصورات مختلفة الأشكال والاتجاهات ولنتائج محتملة متباينة، يجعل بوسعك تقليص مقدار "انحياز الإدراك المتأخر".

وتخلص فوز للقول إن اتباع هذا الأسلوب من شأنه كبح جماح ثقة المرء المفرطة في نفسه، مشددة على أن "أي شيء يقلص من ثقة الناس في قدرتهم على توقع أن شيئا ما سيحدث، أو التنبؤ بالمسار الذي سيجري في إطاره شيء ما، يمثل أسلوبا جيدا للتعامل مع هذه المشكلة".

هذا المحتوى من

فيديو قد يعجبك: