إعلان

في انتظار الجثث| حكاية الـ4 مصريين ضحايا حريق غابات قبرص من "المنيا" إلى "لارنكا"

06:00 م الأربعاء 07 يوليو 2021

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتب- محمود الشال:

هدأت نيران حرائق الغابات في قبرص، بينما نيران أخرى تشتعل بقلوب أهالي قرية الناصرية بمركز بني مزار في المنيا؛ حيث يخيم الصمت المختلط بالترقب على أهلها؛ انتظارًا لوصول 4 جثث تفحّمت في الحريق الذي صنف بالأسوأ بالجزيرة القبرصية منذ إعلانها جمهورية عام 1960.

الضحايا الأربع، عزت سلامة، وعيد نشأت، وصموئيل ميلاد، وماجد يونان، كانوا ضمن 25 آخرين من أبناء قرية الناصرية، يعملون بمزارع الطماطم الممتدة في سفوح سلسلة جبال "ترودوس"، سافروا للعمل الموسمي بالمزارع القبرصية مايو الماضي، على أن يعودوا في أكتوبر المقبل، ويعمل في هذه المزارع الملاصقة للغابات الجبلية مئات الشباب المصريين من قرى ومحافظات أخرى تربطهم صلة قرابة أو جيران.

يوم السبت الماضي الذي حدث فيه الحريق؛ بدأ المزارعون المصريون عملهم في السادسة صباحًا كعادتهم اليومية، بمزارع الطماطم في قرية "أودوس"، شبه الجبلية بمقاطعة "لارنكا"، وعند الساعة الواحدة ظهرًا تحولت هواتفهم إلى ناقوس ينذرهم بالخطر؛ لتقطع الراحة المعتادة قبل أن يعاودوا العمل في الثالثة، وبدأوا في إخلاء المكان هربًا من النيران: "النار نزلت من أعلى الجبل إلى الأسفل مثل الوحش تلتهم كل شيء في طريقها"، كما يحكي نادر ميخائيل، أحد المصريين العاملين بالمزارع القبرصية.

تفاصيل الساعات الأخيرة، كما يرويها نادر، عقب اندلاع النيران التي تصاعدت وانتشرت بسبب سرعة الرياح، هرب المزارعون إلى الشمال باتجاه منطقة "نيقوسيا"، بينما الشباب الأربعة، في مسكنهم الذي يطلق عليه بيت المزرعة، يستعدون للاتجاه إجباريًا إلى جنوب القرية، وهو عكس اتجاه الرياح التي كانت تحمل النيران إلى القرية.

صورة 4

وقع الحادث في قرية "أودو"، التي تقع في أحضان جبال منطقة "لارنكا"، يكثر بها مزارع الطماطم، تصلها بالمدن طرق ضيقة ومتعرجة على مرتفعات جبلية، بينما يتعمد اقتصاد "لارنكا" على السياحة وسباقات السيارات، تعتبر الزراعة مصدر الدخل الأساسي بالقرية، ويكثر بها مزارع الطماطم. حاصرت الحرائق القرية من خمس نقاط، النقطة الأقرب كانت على بعد 102 مترًا من حدود القرية، من أعلى الجبل، حسبما توضح الخرائط.

في تلك الأثناء كان العمال يسابقون النيران التي تنقلها الرياح إلى واديهم، متجهين إلى خيمة كبيرة في "نيقوسيا"، فور وصولهم بدأوا يتممون الأعداد، ويطمئنون على أبناء قريتهم وأصدقائهم، لكنهم انتبهوا إلى صوت كاهن الكنيسة ينادي عن أربعة مفقودين، لم يصلوا بعد إلى الخيمة.

"قسمنا نفسنا مجموعات ورجعنا ندور عليهم"، يقول نادر ميخائيل، إن النيران هدأت بحلول المساء، لكن محاولات البحث عنهم فشلت، فعاد الشباب إلى الخيمة مرة أخرى الساعة الثالثة فجرًا بتوقيت قبرص، الذي يسبق القاهرة بساعة، واستأنفوا البحث مرة أخرى بحلول الخامسة صباحًا، رغم تحذيرات الشرطة القبرصية بخطورة التواجد بالمنطقة.

في تلك الأثناء كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية والنصف تقريبًا، انتهى روماني مرزوق من عمله في المعمار، الذي يزاوله منذ ثماني سنوات في قبرص، لكن طائرات الإطفاء، التي اعتاد عليها في الصيف بسبب كثرة الحرائق لا تزال تحلق، ظن الوضع تحت السيطرة مثل كل مرة، لم يخطر بباله أبدًا أن الخطر قد لحق بالبشر، لكن في المساء رن هاتفه طلبًا للمساعدة لشدة طلاقته في اليونانية، ومعرفته الجيدة بالمكان، وأخبروه أن ثمة أربعة مصريين لا يزالون مفقودين، وقتها كان الفزع متصلًا بين قرية العمال بالمنيا، ومحل عملهم في قبرص، لكن روماني كان يطرد من قلبه أي هاجس حول وفاتهم: "أكيد هيلاقوا طريقة يهربوا بيها".

بعد ساعات رن هاتف روماني بطلب الحضور مسرعًا إلى الغابة، كانت معالم الطريق تؤكد الكارثة، لم يعد المكان نفسه الذي اعتاد قضاء أسعد أوقاته فيه، وتبدل اللون الأخضر إلى السواد الذي يكسو المكان، لم تترك النار شجرة ولا حشرة على قيد الحياة: "لمست كارثة بيئية وبشرية بيدي".

الصورة الثانية_1

عثرت إحدى المجموعات على جثث الشباب الأربعة متفحمة على بعد 500 مترٍ في الجبل، بينما السيارة التي كانوا يستقلونها عثر عليها في مكان آخر مقلوبة ومتفحمة في قعر وادٍ على أطراف القرية؛ "كانوا بيحاولوا يهربوا، لكن القدر كان أسرع منهم"، يقول نادر أحد أفراد المجموعة؛ كانت الجثث متفحمة وغير واضحة الملامح، ومرجعًا انقلاب السيارة إلى حجب الدخان للرؤية، وهربوا منه التماسًا للنجاة، لكن النيران حاصرتهم، "شيلت الجثث بإيدي"، يقول نادر.

"كانت الجثث في أكياس بلاستيك لا تظهر منها أي ملامح"، كتم روماني غضبه بعدما وجد شبابًا مصريين يرتدون القفازات لنقل الجثث، دون أن يقوم محققو البحث الجنائي بواجبهم، على حد قوله: "إكرام الميت نقله لبلده للدفن"، نقل روماني ورفاقه الجثث إلى سيارة، توجهت إلى مستشفى نيقوسيا العام، وبينما انفض الجمع الدبلوماسي وانصرف السفير المصري عمرو حمزة، ووزير الداخلية القبرصي.

الأولى "سابوا بلدهم علشان لقمة العيش، ما كنش ذنبهم إنهم يموتوا بالشكل ده"، يقول روماني، منتقدًا الأماكن غير الآدمية التي يعيشون فيها قائلًا: "لا يعيش فيها سوى طيور الغابة وحشراتها"، مطالبًا السفارة المصرية بالتدخل، لمنع أصحاب العمل من إجبارهم على العمل فوق الساعات القانونية، موضحًا أن القانون ينص على إعطاء العمال نصف يوم إجازة، يومي السبت والأحد، ولو يطبق ذلك لما تواجد الشباب في مكان الحادث.

في السابعة مساء بتوقيت القاهرة، حل الظلام في قلوب أهل قرية الناصرية بالمنيا، أصبح الخبر يقينا، وأطبق الصمت على ناحية البر الغربي بالقرية، التي يتواجد فيها بيوت أهالي الضحايا، بعد أن أخفى الجيران الخبر عن أهل الشباب المتغيبين، لم يعلموا أي شيءٍ عن موت أبنائهم حرقًا، كل ما وصلهم أنهم يعانون من بعض الإصابات نتيجة الحرائق، لكن محاولات إطالة أمد عدم معرفة والديهم الذين لن يتحملوا الصدمة، لم تعد تفلح، اتشحت القرية بالسواد حزنًا على فقدان الأربعة.

الصورة الثالثة

الضحايا الأربع الذين تتراوح أعمارهم بين 24 عامًا و36عامًا، لكن منهم قصة، حيث ترك عزت سلامة طفلين لم يتخط أكبرهم العشر سنوات، بينما عيد نشأت لديه أربعة أطفال، وماجد يونان كان من المفترض أن يتزوج فور عودته، بينما صاموئيل ميلاد كان مصدر الدخل الرئيسي لأسرته، حسبما يؤكد محمود أبو زيد، أحد أبناء قرية الناصرية.

احتاجت قبرص إلى مساعدات دولية للسيطرة على الحريق الذي استمر لساعات على مساحة 55 ألف كم تقريبًا، واستمر العمل حتى السيطرة على الوضع تمامًا، لكن نشاط الرياح هذه المرة جعلها موجة الحرائق الأسوأ.

فيديو قد يعجبك: