إعلان

حين يُغلق الإعلام عينيه عن فلسطين

محمد جادالله

حين يُغلق الإعلام عينيه عن فلسطين

محمد جادالله
07:00 م الإثنين 22 ديسمبر 2025

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تابعنا على

في زمنٍ لم تعد تُقاس فيه العدالة بالحق، بل بعدد «المشاهدات» وعدد «الإعجابات»، تحوّل الصراع الفلسطيني إلى ميدانٍ جديدٍ من ميادين الحرب: حرب الصورة. هنا، يا صديقي، لم تعد الدبابات وحدها تهدم البيوت، بل الكاميرات أيضًا، حين تُدار بعدساتٍ منحازة، تلتقط مشهدًا وتُخفي آخر، وتُعيد صياغة الحقيقة كما يشتهي الممولون. في هذا العالم الذي يُتاجر بالدماء على الشاشات، صار العدل قضية «غير مربحة»، والفلسطيني الذي يُقاوم ببقائه ضيفًا غير مرغوبٍ فيه على موائد الإعلام الغربي، وكأن وجوده عبء على سردية جاهزة لا تحتمل الإزعاج.

منذ أن غزا الإنترنت عقول البشر قبل قلوبهم، تغيّر شكل الوعي الجمعي. صار الخبر يُستهلك كما يُستهلك فنجان القهوة، سريعًا، بلا تأمل ولا مساءلة. وهنا، عزيزي القارئ، صارت القضية الفلسطينية تُختزل في لقطاتٍ عابرة، بين إعلانٍ عن عطرٍ فاخر ومباراة كرة قدم، كأنها حدثٌ منسيّ على أطراف العالم. بينما في خلفية المشهد، يقف الإعلام الأمريكي بقدرة مذهلة على التجميل ليُقدّم الجلاد في ثوب الضحية، ويُسكت صوت الأرض باسم «التوازن في التغطية»، في مفارقة لا تخلو من قسوة واستخفاف بالعقول.

لكنّ الحقيقة، مهما حوصرت، تملك دائمًا طريقها للخروج. وهنا تحديدًا، يا عزيزي، حدث الشرخ في الجدار. فبينما تنشغل الفضائيات الكبرى بترميم الصورة الأمريكية، كانت مواقع التواصل الاجتماعي تُعيد التوازن للوعي العالمي. هناك، حيث لم تعد فلسطين مجرد «قضية»، بل وجوهًا حقيقية، وأصواتًا من تحت الركام، وأطفالًا ينادون بأسمائهم لا بأرقامهم. لقد ربحت فلسطين ولو جزئيًا حرب الضمير الإنساني، حين خرجت صورتها من تحت عباءة الإعلام المأجور إلى فضاءٍ أرحب يملكه الناس لا المؤسسات.

غير أن اللعبة لم تنتهِ. فما زال المال يحكم الصورة، وما زالت الشركات الكبرى تُقرر من يُرى ومن يُنسى. في هذا المشهد الملتبس، يا عزيزي، صار العدل في زمن «الترند» سلعة، والمواقف تُقاس بالربح والخسارة، لا بالمبدأ والإنسانية. حين يصبح الصمت أربح من الحقيقة، يتوارى العدل خلف إعلانٍ لامع، وتتحول المأساة إلى «محتوى» يُسوّق على المنصات. في هذا العالم المشوَّه، يحتاج الفلسطيني إلى معجزة كي يُقنع الكاميرا بأنه بشر.

ومع ذلك، فإن كل طفلٍ يرفع هاتفه ليبثّ لحظة القصف، وكل أمٍّ تصرخ باسم ابنها أمام عدسة عابرة، يُعيدان كتابة التاريخ. فالصورة، مهما خضعت للمونتاج، لا تستطيع أن تُخفي الوجع طويلًا. الحقيقة، مثل النور، تجد دائمًا ثغرة تمرّ منها. وهنا، يا صديقي، يظل السؤال المُلحّ: هل يمكن للعالم أن يرى فلسطين كما هي، لا كما يُراد له أن يراها؟

ربما لا تربح فلسطين أبدًا حرب الإعلام، لكنها ربحت ما هو أعمق: الضمير الإنساني الحرّ، الذي بدأ، شيئًا فشيئًا، يفتح عينيه على الحقيقة التي حاولت العدسات المأجورة طمسها. فالصورة قد تُزوّر، لكنّ الذاكرة لا تُشترى، وهذه معركة الوعي التي لا تُهزم.

كاتب في السرديات الثقافية وقضايا الشرق الأوسط

mohamedsayed@art.asu.edu.eg

إعلان

إعلان