إعلان

ثابت "بلانك".. على مقتضى الحياة

د.هشام عطية عبد المقصود

ثابت "بلانك".. على مقتضى الحياة

د. هشام عطية عبد المقصود
07:01 م الجمعة 14 مايو 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع


كان ذلك الثابت الرياضي المنسوب لعالم الفيزياء- ماكس بلانك هو نجم كتب علوم طفولتنا، والحاضر دوما يلازمنا عبر صفحات الفيزياء، فصار مع الوقت مألوفا يقينا لدينا حين تضرب قيمته العددية كطرف ضمن معادلة، هكذا نضعه محفوظا ثابت القيمة لتصح نتيجة المعادلة، فنحظى بدرجاتها كاملة، وكانت تلك إحدى ميزات دراسة العلوم والرياضيات فى نظرنا حينئذ؛ إذ حين تجيب عما هو مطلوب فى المسألة ومهما كانت رداءة خطك، تحصل على درجتك كاملة؛ فلا مجال لتفسير مختلف أو حل بديل آخر محتمل أو ضمنى، ما دمت قدمت خطوات وصولك للحل منتهيا إلى الرقم الصحيح.

وقد عرفنا حين سألنا أول مرة عن معنى ثابت "بلانك" أنه قيمة رياضية ثابتة لها معامل رقمي كبير، لا تتغير وإنما هي مكتشفة هكذا ليستعان بها تضمينا وطرفا في المعادلات التى تتطلب حضورها في مجال فيزياء الضوء والسرعات أو ما شابه كما أتذكر الآن.
وكان ثمة تقدير كبير فى بيئة التعليم حينئذ للذاكرة التى تحفظ الأرقام والقيم الكثيرة وتجيد عمليات ضربها وقسمتها دون آلة حسابية، من الذاكرة وحدها، وكنا نتبارى فى إثبات مهارة ذلك، ثم جاء وقت شكك فيه البعض في صحة وقدرة تلك العمليات العقلية وجدواها، وكيف يمكن لآلة حسابية بدائية تحسب القيم بها فى سرعة ودقة أكبر، وتم اعتبارها ضمن ما أطلق عليه البعض- نقدا- الذاكرة "التلقينية"! وكأن الحفظ والاسترجاع من الذاكرة لا بد أن يكون متعارضا بالضرورة مع التفكير والتفسير، وأن قدرة الطالب الصغير على الحفظ ليست ميزة فى ذاتها، وأنها ليست مؤدية لتحولات نوعية وذهنية أعلى، تدخل ضمن دور المعلم والمدرسة معًا فى أن يصنعا تحويلا ونقلا لتلك القدرة الاستيعابية الهائلة وملكات الحفظ إلى مستويات الربط والإبداع قياسا واستنباطا واستشرافا.

عموما كان كل ذلك نقاشات زمن صار قديما، وحيث صار معروفا باليقين أن علامات تدهور عقل، بل مجمل حضور الإنسان حيا إنما يتزامن مع تدهور ملكات الحفظ والذاكرة الاستيعابية والاسترجاعية أيضا، والذى يترتب عليه تدهور القدرة على التفكير والربط والاستخلاص، فضاءات خواء يجر بعضها بعضا، تماما كقرص ذاكرة حاسوبية يصيب التلف بعض قطاعاته التخزينية، فتتوقف حدود تخزينه واسترجاعه وربطه عندما تبقى ولم يتلف بعد من معلومات فى شرائحه التخزينية السليمة.

هكذا عاش ثابت "بلانك" حياتنا نحن- طلاب القسم العلمى الذين يحبون الفيزياء، يتذكرون- لا يزالون- قيمته فى كل مرة يودعها مدرس الفيزياء داخل المعادلة فى فصل المدرسة بينما سترته تتناثر عليها بوضوح ذرات الطباشير الأبيض من أثر جهد الشرح والرسم دأبا على السبورة العتيقة، ووجهه متألق بالنظر إلينا ليتأكد من فهمنا بينما يسبقنا إليه لمعان عيوننا فرحا ودهشة.

مرت مياه كثيرة فى بحر الحياة متلاطم الأمواج، منها أوقات التفكير الزائد والسعي المفرط حينا لتفسير ما قد يعصى على التفكير وينافر القبول السهل ومعه الرغبة الزائدة - بشر وأبناء بشر- فى منطقة الأشياء أحيانا، ليبرق بعد كل مرة أمام ناظريك ثابت "بلانك" فيدلك مُطمئنا على شروط الثوابت في الحياة.

يعيد حضور ذلك الثابت تفسير معنى وغايات كثيرة حين تتداخل الأشياء، فيثبت قليلا بعضا من حيرة وقلق ويحل معضلات ما يؤرق حينا آخر، ويوازن معادلة حساب المكسب والخسارة حد القبول والرضا المتسامح، ليضخ فى عروق العيش نبضات هادئة راضية مرضية.

يمنحك تأمل صيغة ذلك الثابت تصالحا مرنا فيما يخايلك من أشياء مضت، حيث ستدرك ذلك عبر عملية تدبر بسيطة جدا عن تعلقاتك "الهامة" في الحياة في سالف الأوان وعند مراجعتها على مقتضى ظروف مرور السنوات، فتدرك مثلا أن اختيارا ما أو تعلقا ما كنت تراه ذات زمان مرادفا للتحقق أو النجاح أو الاكتمال المادي والمعنوي بل أحيانا معادلا للحياة ذاتها- أنه لم يكن أبدا شيئا كبيرا، وتحمد الله أنه مر هكذا ولم يصبك أثره، وتتعجب كيف غضبت، بل حزنت أن فاتك حينها وتوقفت أمام محطته زمنا تاليا ندما وأسفا، ستدرك أيضا أن قسما كبيرا من تلك التعلقات كانت وهما كبيرا، وأنه لو استدار الزمان مسترجعا أيامه متحليا بمعرفتك الآن، ما كنت تعلقت أو تشبثت أو توقفت، بينما يظل البعض الآخر مخايلا لكونه لم يتعرض لإسقاطات وفيوض تجربة أو شبه تجربة عشتها أو أدركتها، وهو ما يمنح لتلك النوستالجيات خيالا وتخييلا جما.

وبينما تمر الأيام تحمل أشياءها عبورا لن تنفلت أبدا من أنك ذات يوم بعيد قد التقيت على صفحات كتاب الفيزياء ثابت "بلانك" ليبقى محفوظا فى ركن مكين من الذاكرة لا تُفلته، حاضرا دوما يدير الحياة على مقتضى النسبية هونا.

إعلان