إعلان

تلك المرأة الطيبة.. في محبة أمي

د.هشام عطية عبد المقصود

تلك المرأة الطيبة.. في محبة أمي

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 19 مارس 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كلنا نحب أمهاتنا ونوقن أنهن أصفياء الحياة وخير ناسها، ويبقى ذلك طابعًا عامًا لدى كل الأبناء، وقد يراكم البعض خصوصية ما للأم، وحيث لا تتشكل فقط من خلال عاطفته الفطرية والمحضة تجاهها ولكن أيضا عبر ما وعاه والتمسه منها إنسانة وبشرا، وهذا بعض من ذلك.

تمنحنا الكتب وأبيات الشعر شيئا من الحكمة الزائدة في وصف الكرم وصوره بلاغة، لكن تعريف الكرم سلوكا وحياة يثبت عبر خبرات من عايشت من الناس فمنحوه واقعا وأثرا طيبا وهكذا أمي، أن تجود بما لديك ولو كان عزيزا تماما حين يحتاجه آخرون وبلا تردد أو تدبر واحتراز، فيضًا من الله تلقائيًا غير مقطوع ولا محسوب وخال من كل الأثر الجانبي لعمليات الإحصاء البشرية المرهقة المزمنة، وانقطاعًا عن ربط ما يجود به الله عليها ولو كان قليلًا بتصنيف البشر في صفات سهلة عمن يستحق ومن لا يستحق، استباقًا بموجبات الرحمة، وحيث يستوي في رحابها الخلائق ابتغاء مرضاة الله، ثم إن الله خبير بالنوايا والأمر كله متروك له.

يعتقد البعض مخطئا أن دور الأم يقل في حياة أبنائها مع مضي العمر بهم، خاصة الأولاد منهم، حيث ينتقلون من مرحلة الإحاطة الشاملة اعتمادا كليا عليها إلى نوع من الاستقلال النسبي يزداد مع تكوينهم عوالم موازية تقتطع من أوقاتهم عبر مجموعات العمل والأصدقاء الذين يمضون معهم أغلب الوقت خارج حدود المنزل، ثم يمتد الأمر حينما يتزوج الشاب ويكون أسرة جديدة، حيث قد يبتعد قليلا أو كثيرا، وهكذا قد يترسخ انطباع مخطئ بأن احتياج الرجل لأمه يقل، وهو منتهى يقين الخطأ.

يظل حضور الأم مؤثرًا تمامًا بينما يتشكل متغيرا في طرائق علاقته وسمات خصوصيته متخذا طبيعة مرحلة عمر وانشغال الابن/الرجل، ففي غمار فترة وزمن الانشغالات الكبيرة في عمر الرجل يحدث تغيير ما يرتبط بذلك، لكنه لا يمتد قط ليحول أو ليحد من أثر شريان محبة أمه -من حملته وهنا ووضعته وهنا- تظل نقطة البدء تلك ممدودة حتى انتهاء الكون موصولة بمودة القرب والرحمة يلتمسهم منها الابن حاضرة وغائبة، وهي تعيش على أرض الكون أو منتقلة إلى رحاب ربها.

يكبر الرجل عمرًا وتكبر معه محبة أمه؛ لتكون ونسًا وطريقًا وظلًا وشجرًا وقمرًا وذكريات، هي تلك المحبة غير المشروطة التي علمته الحياة أنها لن تجود بمثلها أبدًا، أن تحبك صغيرًا وكبيرًا، متحققا وفاشلًا، منتصرًا ومهزومًا، قويًا وضعيفًا، معافى ومريضًا، تلك هي محبة الأم، حيث لا تسألك عن أخطائك ولا تؤرقك بالقبول المشروط، هي مجال الرحمة وسعي قبول الأعذار في كل شيء وأي شيء فتطيب الحياة طمأنينة.

لم تحذرني أمي قط من معايشة الناس، فهم جميعهم خلق الله، وهم في عرفها جديرون بالرحمة حتى من بدت من أفواههم العداوة والبغضاء وقولها هنا هين يسير كماء جارٍ "من لا يرحم لا يُرحم"، أحبت أمي الناس، ولم تخشَ حضورهم في حياتها طيبين وأفظاظًا، أفسر ذلك الآن بأنها منحة الله بنعمة "الترك" يقينًا وسلوكًا، أن تترك زهدًا ما يسعى له المتسابقون ظنًا أنه جدير بسباق التدافع تعبًا وبغضًا، وأن تقنع بما أعطاه الله لك رضاء حقًا وليس تظاهرًا أو تصنعًا أو قبولًا منهزمًا.

عملت أمي طوال عمرها وتحصلت على الكثير، ولم يتبق دوما لديها شيء، لم تملك حيازات أو مقتنيات أو ما سواهما مما يتحسب له البعض في مواجهة ما اعتادوا خوفا وحذرا أن يسموه "غدر الزمان" فمنحها الله العيش طيبا والانتقال إلى رحاب ربها يسرًا مطمئنة ونحسبها كذلك ولا نزكيها عليه فهو عليم بعباده ورحمته سبقت كل شيء.

في رحاب محبة الأمهات تقابلنا بعض الظواهر المقيتة، ولعل أسوأه هو ما أنتجته ثقافة ما تبقى من عصور همجية البشر وتخلفهم من استخدام الأم مجالا للسباب والتنادي القبيح، هو سمت الفشل وانهيار القيم وتعبير عن حالة عدم التحضر على مدرج البشرية حتى يمكنك أن تعرف بالمجتمعات تقدمًا وتخلفًا بشيوع ورعاية ذلك، أن يتخذ البعض من الأم في مواقف النزاع والخصومة موضعًا للسباب أو النيل، حيث يظنه الجاهل والحقير والمنفلت انتصارًا، لا يدري أن "الشتيمة بالأم" التي كرمها الله هي لعنة ترتد على صانعيها من فوق سبع سماوات، هي نتاجات الرعاع ولا تنمو سوى في ظل حقول التقاليد الفاسدة وحقراء المجتمعات، حقارة لا يداني في انحدارها شيء، تعبير مكتمل عن فقدان الحس والكرامة.

نحب جميعًا أمهاتنا يستوي في ذلك الكل، هي نبض حضورك الأول إلى الكون وضخة البدء كائنًا حيًا من شرايينها إلى جسدك جنينًا، ثم الوجه الأول يستقبلك والإطلالة الأولى على الكون من حضنها رضيعًا، اليوم الأول في المدرسة، الحبو الأول وملعقة الطعام الأولى تأكلها بنفسك وهي تشاهدك تفعل ذلك منفردًا، وكأنك اجتزت أصعب الاختبارات في الكون، أمهاتنا حيث سجل الأشياء الطيبة.

مختتم:

"يا للي عمرك ما خلفت ميعاد في عمرك".. ذلك الشجن الجم الذي منحه الحضور المتشكل فريدًا في كلمات عبدالفتاح مصطفى ولحن محمد عبدالوهاب وغناء السيدة أم كلثوم.. هو نداء المحبين الأجمل حيث عطر الغائب الجميل.. هو لك دومًا يا أمي.

إعلان