إعلان

العلم ومكانته .. عن اختلاف الزمان والعيش على مقتضى الآوان ..

د.هشام عطية عبد المقصود

العلم ومكانته .. عن اختلاف الزمان والعيش على مقتضى الآوان ..

د. هشام عطية عبد المقصود
07:36 م الجمعة 12 فبراير 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تتغير تقاليد ومرعيات ثقافة تعامل الناس مع مفردات الحياة وفق ما يستجد من وقائعها وأحداثها مع مرور الزمان، سواء ما كان منها يدخل فى جدها أو هزلها أو حتى ما هو من اعتياد أشيائها إذ تتطور فيتغير نمط إدراكها وتقييمها ثم التصرف حيالها، وهو ما يصير أحيانا تحولا بينا يستمر حتى ليكاد يفارق محطات الاعتيادات الأولى فى التعاطى مع مفردات المعايش وكما عرفها الناس أنفسهم قديما، وبحيث يصبح ذلك بعضا من متلازمات التقدم والعمران، لتدرك يقينا أنه فعل الزمان الذى اختلف.
وهنا لا تبارح مخيلة وذاكرة الكثيرين من أجيالنا ومن يسبقها أو يليها مباشرة، ذلك التنويه والتحذير الصارم تماما، والذى يمثل فرمانا دوريا معتادا ومكررا فى كل بيت يصدره الآباء والأمهات فى مواجهة أطفالهم وهم يكبرون، بألا يشغلهم الاهتمام باللعبات الرياضية عموما – وبالطبع كان الحديث معنيا به كرة القدم تحديدا وحيث هى سيدة ألعاب الوقت- عن جد الحياة والمستقبل كما يدركونه متمثلا فى المذاكرة والتحصيل باعتبارهما سبيلا للتحقق لايرون دونه سبيلا ولا غيره سببا للترقى والمكانة.
وحيث تحضر فى هذا السياق الأمثلة الكثيرة لتؤكد الارتباط الشرطى بين الانشغال باللعب وبين الضياع كمفردة ومفهوم صعب مرير يتولى أولياء الأمر من الأهل شرحه بتفاصيل مؤرقة لهم قبل أن تفعل ذلك مع الأبناء، كان ذلك منطقا ورؤية ترسخا فى آباء وأمهات تلك الأجيال، ليخلص القول بأن من جد واجتهد فقد تحقق وأنجز، أما ذلك الذى انشغل بركل الكرة فى طريق الذهاب أو العودة من المدرسة ووضع حقائبه كعارضة وهمية متلهيا بها عن مذاكرته فلتتوقع أى مصير ينتظره؟!.
بالطبع لم تفلح كثير من المحاولات والتنبيهات بل والتحذيرات عن ثنى الأطفال عن اللعب وعن بعض مغامراتهم فى الهروب من تلك القيود المشددة، لكنها ظلت تترك أثرها وحيث قيدت اللعب بعقال المصلحة والواجب والالتزام تجاه الأهل وتجاه الذات، وحيث تظل تبرق أمثلة الأهل كفلاشات تومض أمام العين دوما.
وكان ذلك يعبر عن مفارقة ما، فبينما يلتف عموم الناس كبيرهم وصغيرهم حول مباريات كرة القدم ولاعبيها احتفاء وتشجيعا، كان التحذير يسرى بالتوازى بألا يشغلهم ذلك عن المذاكرة والاجتهاد فى تحصيل العلوم، وأنه يجب بل يلزم فى فترات ما غلق باب اللعب فى الشارع ومجافاة "نداهة" كرة القدم تماما، وخاصة إذا كان الطالب على أعتاب مرحلة الثانوية العامة، والتى تقتضى تجهيزا واستعدادا وما يشبه حجر طوعى قبل حجر الكورونا بأوان.
ويدهشك ملفتا الآن إذ تمر داخل أحد الأندية الرياضية وحيث الملاعب محتشدة بفرق تضم أولادا وبناتا من مختلف الأعمار، يمارسون الألعاب الرياضية ليس فقط هواية وشغفا بل احترافا وأملا فيما تجلبه من تحققات، وحيث يصحبهم الأهل فى حبور واهتمام، لايقطع ذلك موعد المذاكرة ملحا، بل يستمر ذلك وعيا وقصدا وسلوكا قبلها وبعدها وأثنائها، حتى أنه فى بعض الأحيان لا يحجبهم عن اللعب والتركيز فيه – الذى صار وظيفة ومستقبلا واعدا – شئ آخر.
سيدهشك أن تشاهد الآباء مشدودين عصبيا ومنفعلين وهم يتابعون تدريبات أو مباريات الإبن أو الإبنة، بل ويلاحقونهم تعليقا وتوجيها وتوبيخا يذكرك بأيام الحث على المذاكرة فى سالف الأوان، حتى ليكاد الأب أن يكون مدربا مساعدا، بل لا يفوت المرء مشهد أب ينفرد بطفله الصغير فى إحدى اللعبات الجماعية فى استراحة التدريب ويعنفه بقدر من حدة ولوم واضحين، والولد يقف أمامه مستمعا ومنكس الرأس، كأنه قد رسب توا فى امتحان شهادة تعليمية كبرى.
هكذا تحول اللعب الطوعى الممتع الذى كان الولد أو الفتاة يسعى له محبا إلى حالة إلزامية يدخل فيها الطفل أو الطفلة مبكرا، فى نظام يريده الوالدان صارما سعيا وراء فرصة يتوقعاها أو ينتظراها للإبن والإبنة فى شهرة وثراء قد شاهد حدوثهما فى تغطية الميديا واهتمامها بمشاهير اللاعبين دوليا ومحليا، حتى أوشك أن يصير اللعب احترافا هدفا وإجادته مبتغى وما سوى ذلك يستوى أو يكاد يترامى على هوامشه متضائلا.
انتهى عصر النصح الجميل الذى يوجهه الأب لإبنه صاحب موهبة اللعب الفطرية الظاهرة، بأن الدراسة أولا وقبل كل شئ، وأنه سيكون ماهرا حقا حين يمنح أولوية للمذاكرة ثم يجمع بين موهبته الرياضية وتفوقه العلمى معا، سيكون قد مر زمان التسرى الجميل بلعب الهواة مع الأقران، ليكون اللعب وسيلة حياة وطريقا للثراء والجاه أو حيث يظن الكثيرون ذلك ويمضون فيه، وسيمثل ذلك تحولا مهما فى مفهوم الوظيفة ومكانتها ودورها المجتمعى، وفى تقييم الشخص فى الحياة ارتباطا بها، سيكون ذلك موصولا بنزعات تملك واستهلاك تغذيها إعلانات الميديا عن وسائل الرفاهية فى الحياة وحيث جميعها ستفضى إلى طريق هو أن مكانتك بقدر مقتنياتك وليس بما تحققه فى الحياة من منجز إنسانى ومجتمعى يبقى ويستفيد منه البشر محليا ودوليا.
حدث ذلك التحول على مدار عقود من السنوات بطيئا مترسخا ومستمرا معا، وخطورة عدم الانتباه لذلك هو ما يفعله فى بناء كتالوج مواصفات الدور الحياتى وصورة المنجز فى عقول الأطفال فى ظل عصر ينمو بالاكتشاف والاختراعات وإضافات التقدم والتطوير، وتتزامن معه الرياضة كممارسة نبيلة ليس يجدر دوما أن تكون هدفا ومبتغى إلا لقلة ممن برعوا تماما، وتقديرى أنه تحد مهم لكل خطة تنموية مستقبلية عبر ضرورة بناء نسق مواز يعلى من قيمة المنجز العلمى والمعرفى ومنحه وجاهة فى عقول النشء تجعله يستحق العناء، فبالعلم والتعليم أولا يصنع البشر حياتهم غذاء ودواء وصناعة وتسليحا وفنا وثقافة، وهكذا تعيش مجتمعات التقدم حياتها كما يسجلها الكون منجزا وتمضى نحو مستقبل ترجوه.

إعلان