إعلان

تحذيرات الحكيم إيبور

د. أحمد عمر

تحذيرات الحكيم إيبور

د. أحمد عبدالعال عمر
07:00 م الأحد 17 يناير 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بعد عدة قرون من عصر بناة الأهرام، الذي بلغت فيه الدولة المصرية قمة ازدهارها ومجدها- خاصة مع ملوك الأسرة الرابعة الذين ملكوا سلطة مركزية طاغية وثروات كبيرة- زاد نفوذ موظفي الدولة وكبار رجال المال والأعمال، الذين ملكوا على مدار السنين ثروات فاحشة، وإقطاعيات زراعية ضخمة.

وبحلول عام 2500 قبل الميلاد، تضخمت تلك الإقطاعيات، وحقق أصحابها لأنفسهم استقلالًا سياسيًا كبيرًا، أداروا بمقتضاه شئون تلك الإقطاعيات بعيدًا عن سلطة الحكومة المركزية، ما أدى إلى انهيار السلطة المركزية ووحدة الدولة المصرية على نحو مُروع.

يذكر الأستاذ جيمس هنري برستيد في كتابه الشهير (فجر الضمير) أن انهيار الدولة المصرية القديمة كان له تأثير كبير على عقل ونفسية المصريين الذين أصبحوا معه يميلون للتشاؤم والتأمل في معنى الحياة وجدواها، وتوقفوا عن الاهتمام بأبهة وفخامة المنجزات المادية.

وقد عبر المصريون القدماء عن تلك التأملات في حكم ووصايا ومناجاة ذاتية، جاءت عظيمة الدلالة على حالتهم العقلية والنفسية، ونزعتهم التشاؤمية الكارهة للحياة في زمن السقوط السياسي والاجتماعي والاقتصادي، والانحدار القيمي والأخلاقي.

وتُجسد لنا البردية الشهيرة- المحفوظة الآن في متحف برلين- التي تحمل عنوان "محاورة بين إنسان يائس سئم الحياة وبين روحه" الحالة النفسية والعقلية لإنسان مصري من ذلك الزمان، بعد أن نظر حوله فلم يجد إلا الفساد والخيانة والظلم، فتألم، وبلغ به اليأس مداه، وفقد الإيمان بجدوى الكلمة والإصلاح، في ظل التردي والفساد العام، ما دعاه لتمني الموت خلاصًا من كل شيء، فكتب يقول:

لمن أتكلم اليوم؟

الإخوة سوء، وأصدقاء اليوم غير جديرين بالحب.

لمن أتكلم اليوم؟

القلوب تميل إلى اللصوصية، فكل إنسان يغتصب متاع جاره.

لمن أتكلم اليوم؟

فالرجل المهذب يهلك، وصفيق الوجه يذهب في كل مكان.

لمن أتكلم اليوم؟

لا يوجد رجل عادل، وقد تُركت الأرض لأولئك الذين يرتكبون المظالم.

وعلى العكس من هذا المتشائم المجهول، عاش في ذلك الزمان أيضًا، ناقد ومفكر اجتماعي رائد هو الحكيم إيبور، الذي حاول أن يهزم يأسه ودواعي التشاؤم حوله، وصور في نص موجود ببردية محفوظة الآن بمتحف ليدن بهولندا، تُعرف بعنوان "تحذيرات الحكيم إيبور" مظاهر الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتردية حوله، وسبل القضاء عليها.

وقد مارس هذا المفكر العظيم النقد الذاتي، وحمل نفسه بعض مسئولية التردي الذي صارت إليه الأوضاع في بلده، لأنه لم يقم بدوره، ولم يجاهر برأيه وبكلمة الحق في وقتها، فكتب يقول: "ليتني رفعت صوتي في ذلك الوقت، حتى كنت أُنقذ نفسي من الألم الذي فيه الآن، فالويل لي؛ لأن البؤس عم في هذا الزمان".

ولم يتوقف الحكيم إيبور عند الجانب النقدي للمجتمع والذات، بل اتخذ أيضًا موقفًا إيجابيًا تجاوز به صمته في مرحلة سابقة، وضع بعض الوصايا التي تمهد للإصلاح وإعادة بناء المجتمع والدولة، وأهمها "وجود حاكم عادل ذي بأس، تكون وظيفته أن "يطفئ لهيب الحريق الاجتماعي، ويُقال عنه إنه راعى كل الناس".

وهذا يعني أن جدنا الحكيم إيبور كان يرى أن الحاكم القوي العادل، الذي يملك وعيا اجتماعيا متقدما وحسًّا إنسانيا هو القادر على إطفاء لهيب الحريق الاجتماعي والتفاوت الطبقي الذي دمر وحدة وتماسك واستقرار الدولة.

ولكنه نظر حوله، فلم يجده، ولهذا تساءل متعجبًا: "أين هو اليوم؟ هل هو بطريق المصادفة نائم؟ انظر إن بأسه لا يُرى".

إعلان