إعلان

علاء الغطريفي يكتب: المسألة التركية "3".. لدينا مياه العرب!

علاء الغطريفي

علاء الغطريفي يكتب: المسألة التركية "3".. لدينا مياه العرب!

علاء الغطريفي
06:36 م السبت 11 يوليه 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

قبل شهرين، أعلن رجب طيب أردوغان أن بلاده ستبدأ تشغيل أول توربين لتوليد الكهرباء في سد "إليسو" على نهر دجلة، رغم ما يمثله من مخاطر على تدفق المياه إلى العراق، في ظل نقص المياه وانخفاض منسوب نهري دجلة والفرات في أراضيه.

يعيدنا المشروع إلى أكثر من 40 عاما، عندما قامت أنقرة منفردة بملء خزان سد أتاتورك على نهر الفرات في جنوب شرق الأناضول، وتحدت الجارتان العراق وسوريا.

نبحث في جذور السياسة المائية التركية تجاه العرب، وصولا إلى إطلاق مشروع سد أتاتورك في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، الذي كان تمهيدا لسدود ومشروعات مائية أخرى في مراحل لاحقة.

المياه ثروتنا

تجد تركيا نفسها في وضع استراتيجي قوي؛ باعتبارها البلد الوحيد في الشرق الأوسط، الذي يتمتع بمصادر مائية جوفية غزيرة، والنهران الكبيران في المنطقة "دجلة والفرات" ينبعان من أراضيها قبل أن يذهبا لسوريا والعراق، مما يعطيها سيطرة فعالة على هذه الموارد - كما يصف فيليب روبنس في كتابه عن تركيا والشرق الأوسط.

حاولت تركيا إثارة أحقيتها بالتصرف في مياه دجلة والفرات أسوة بالدول النفطية التي تملك حق التصرف بثرواتها النفطية؛ كون مياه هذين النهرين، من وجهة نظرها، مصدراً طبيعياً خاصاً بتركيا عابرين الحدود الدولية، وليسا نهرين دوليين، وأن حوضي دجلة والفرات حوض واحد، وأن لتركيا حق التصرف بمياه النهرين ضمن حدودها.

ولهذا لجأت منذ السبعينيات إلى سياسة غامضة لمشروعات ري عملاقة أخفتها عن العراق وسوريا، مستغلة الخلافات بينهما، لكي تحصل على أكبر كمية من مياه نهر الفرات.

في أواخر السبعينيات، حاولت تركيا أن تسير على النهج السوري الذى بدأ استثمار مياه الفرات في الري والطاقة الكهربائية، من خلال إنشاء سد الثورة بمعاونة الروس، ووضعت عام 1980 مخططا شاملا يمهّد الطريق إلى مشروع جنوب شرق الأناضول على نهرى دجلة والفرات، الذى رأت فيه مشروعا قوميا، يحمل أبعادا سياسية واقتصادية، تبريد للمسألة الكردية وفى نفس الوقت يجلب منافع اقتصادية نظرا لضخامته.

دوامات اللجان الثلاثية

في بداية الإعلان التركي عن المشروع الضخم في جنوب شرق الأناضول، أعربت سوريا والعراق عن مخاوفهما، وانتهى الأمر إلى تشكيل لجنة ثلاثية عام 1980، وكانت الظروف السياسية مواتية نظرا لقوة جارتيها آنذاك، ومن ثم كان القبول اعترافا بأن نهر الفرات ليس نهرا تركيا بل نهر تملك سوريا والعراق حقوقا فيه.

تشددت تركيا خلال المفاوضات التي دامت سنوات تجاه أية ترتيبات متعددة الأطراف، على اعتبار أن لا سلطة لها على مقدار المياه التي تجري من سوريا إلى العراق بعد خروج النهر من أراضيها، وأن ذلك لا يرتبط بالضرورة بمقدار المياه التي تجرى من تركيا إلى سوريا.

في عام 1987، عقدت اتفاقية ثنائية بين سوريا وتركيا حول ملء سد أتاتورك على الفرات، تعهدت أنقرة بموجبها بتدفق حد أدنى من المياه يبلغ 500 م3 في الثانية عبر الحدود السورية، ورأت دمشق في الاتفاقية تدبيرا مؤقتا لتغطية فترة خزان سد أتاتورك حتى يعود الجريان، ثم العودة إلى الحالة العادية. أما العراق، فقد اعترض على المعدل المنخفض لخشيته أن يتحمل نتائج ملء السد التركي.

واستمرت المفاوضات حتى نهاية 1989 عبر 14 اجتماعا للجنة الثلاثية، ومثلت المسألة برمتها مخاطر على السياسة العربية، وصارت المياه عاملا رئيسيا في النظرة التركية تجاه العرب، ومنحتها قوة ما في المستقبل.

جرأة غير معتادة

بلغت دراما المفاوضات ذروتها بعد 10 سنوات، ففي عام 1990، قررت أنقرة بدء ملء خزان سد أتاتورك دون أي ترتيبات مع سوريا والعراق مستفيدة من تقلبات المنطقة وانخراط الدولتين في أزماتها، وحولت مجرى الفرات شهرا كاملا، ومثلت الخطوة التركية تحولا في سياستها تجاه المنطقة، وجرأة لم تكن معتادة في عقود ما بعد إعلان الجمهورية.

واجهت تركيا سوريا والعراق بالأمر الواقع وبذلك حرمتهما من إمكانية استخدام الضغط لفرض تراجعها وبعد ذلك استخدمت اجتماع اللجنة الفنية التقنية كمناسبة لإعلان خطواتها وللقول بأنها أبقت جيرانها على اطّلاع تام بالأمر.

سد أتاتورككان هذا الإجراء استكمالا لتشددها في المفاوضات ورفضها تقديم أي تنازلات سياسية بخصوص ما تعتبره قضية فنية أي فترة ملء السد، وامتنعت عن الاستجابة للطلب العراقي بتقليل المدة، بل رفضت اقتراحا مماثلا من وزارتها للشؤون الخارجية.

مثلت هذه الصلابة غير المعروفة سابقة في المعاملات التركية مع جاراتها في الشرق الأوسط، كما يقول أحد المراقبين آنذاك، جاءت في إطار سعيها لمصلحتها القومية، فهي لا تريد أن تخسر بعد الدعاية الواسعة لمشروع جنوب شرق الأناضول ورغبتها كذلك في تخفيف حدة المشكلة الكردية هناك.

كان سلوكا تكرر في تواريخ لاحقة، بالهرب من مشكلات الداخل بتصدير أزمات للآخرين، وهو ما يحدث حاليا على خريطة المنطقة.

استغلال الضعف

استغلت، وقتها، تركيا ضعف جارتيها في المجرى الأسفل للنهر، فالعراق ليس في وضع يسمح له بمواجهة عسكرية مع جارته الشمالية القوية في أعقاب حرب طويلة مع إيران، وكانت سوريا منشغلة كدولة مواجهة وحيدة في مقاومة إسرائيل، ثم إنها متورطة بقوة في لبنان، واقتصادها ضعيف، وتورطها في مواجهة عسكرية لن يكون من الحكمة.

تصرفت تركيا بموجب ما تقتضيه مصالحها دون النظر إلى جيرانها العرب، وأبدت استعدادا محدودا لفهم التصورات العربية، في إطار الخوف من تأثر علاقاتها النفطية بالعراق، ووقف إمداداته إليها.

جاء رد الفعل العربي غاضبا، واقتصر على الشجب كالعادة، وامتلأت الصحافة العربية بمقالات منددة بالفعل التركي، فانزعجت أنقرة، وأرسلت وفودا للعواصم العربية لشرح وجهة نظرها.

كان الأمر لتركيا بمثابة اختبار لتحملها الاحتجاج العربي، والأسلوب الجديد الذي اتبعته تجاه جارتيها، وشكلت الواقعة كثيرا من ملامح السياسة التركية تجاه المنطقة بدءا من التسعينيات، وبنى عليها مواقف وسياسات أسهمت في الوصول إلى اللحظة الحالية.

ولم تهتم بالشكاوى السورية والعراقية من أضرار نقص المياه والمشكلات التي سببها السد، ورفعت في وجه العراق مسألة أنه يمتلك نهرا آخر هو دجلة، يمكنه من خلاله تعويض نقص المياه، رغم أن الواقع يقول بأن دجلة لا يكفي لحل مشكلة العراق المائية.

وبعد أكثر من 40 عاما من هذه الحجة، أعلنت تركيا بدء تشغيل توربينات سدها الجديد " إليسو" على دجلة الذي قالت في الماضي أنه يكفي لسد النقص في احتياجات العراق لتبرير إنشاء سد أتاتورك على الفرات، وصار التهديد المستقبلي الذي كان يخشاه العراقيون في التسعينيات واقعا بإنشاء سد "إليسو" وغيره من السدود التركية الأخرى.

أنابيب السلام

تركيا لديها فائض مائي، سواء من خلال المياه الجوفية أو الأنهار الكثيرة في أراضيها، وطرحت فكرة الماء كسلعة اقتصادية، وحاولت تفعيل تعاونها مع إسرائيل على هذا الأساس، وجاء في هذا الإطار تصورها لما يسمى "أنابيب السلام" عام 1987، وسعت فيه للاستثمار الدول العربية الغنية في مشروع إقليمي ينقل للجزيرة العربية ودول الخليج المياه عبر سوريا ثم إسرائيل ودول المنطقة.

ويشمل المشروع إنشاء أنابيب تأتى من نهري سيحان وجيحان التركيّين اللذين يصبان في البحر المتوسط، لنقل المياه التركية إلى المنطقة العربية عبر خطين، وتعثر المشروع التركي العثماني بامتياز؛ بسبب المخاوف العربية والإقليمية وإمكانية استخدامه كسلاح سياسي.

خاتمة

في حفل تدشين سد أتاتورك في بداية التسعينيات، قال رئيس الوزراء التركي سليمان ديميريل آنذاك إن «ما يعود لتركيا من مجاري مياه الفرات ودجلة وروافدها هو تركي... نحن لا نقول لسوريا والعراق إننا نشاركهما مواردهما النفطية... ولا يحق لهما القول إنهما يشاركاننا مواردنا المائية».

هذا هو ملخص السياسة المائية التركية، ويعبر عن نواياها في الحاضر والمستقبل تجاه مياه العرب، كما عبر عنه في الماضي القريب، فهم يرون أنفسهم ملاكا لصنبور مياه العرب، ومن ثم يستطيعون فرض إرادتهم وسياستهم في المنطقة.

إقرأ أيضاً:

علاء الغطريفي يكتب: المسألة التركية "1".. لماذا تكره العرب؟

علاء الغطريفي يكتب: المسألة التركية "2".. نعادي قوميتكم وعبدالناصر أيضًا!

إعلان