إعلان

مخاوف البشر وذلك الشغف الكامن ..

د.هشام عطية عبدالمقصود

مخاوف البشر وذلك الشغف الكامن ..

د. هشام عطية عبد المقصود
07:19 م الجمعة 10 يوليو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

مشاهد زحام الجمهور العام على الشواطئ الأوروبية وفي المقاهي بعد انتهاء إجراءات الإغلاق وعبر ما أظهرته مواقع الصحف الإنجليزية والأمريكية، وكذلك ما نتابعه في مصر من إقبال كبير من الجمهور على التواجد في المولات التجارية والشوارع والكافيهات والمصايف، جميعها تعطي معنى مهما عن أنه لا يمكن للبشر أن ينعزلوا طويلا عن ألفة الأماكن وعن رؤية الناس ولو ظل بعض أو كل الخطر كامنا، يستوي الشرق والغرب في ذلك، أولئك المتقدمون على سلم الرفاهية والآملون في أن يكونوا مثلهم من سكان العالم النامي وما بينهما، تلك هي بعض من فطرة البشر التي يمضون بها سلوكا عبر القرون فلا يختفي أثرها.

وهكذا بحث الماكثون في المنازل سابقا عن الناس ووجوههم في الأماكن المفتوحة ومجالات التسوق والتنزه المعتادة ولو عبر تطبيق قواعد التباعد الاجتماعي، وتأكدوا أنه لم يمنحهم الواقع الافتراضي وتكنولوجيا "الأحلام" بديلا تعويضيا مناسبا ولا إشباعا حقيقيا لما غاب عنهم؛ ليصنع ذلك تحولا مهما في الدراسات والرؤى بشأن بدائل مسارات الحياة التي عاشها البشر طوال آلاف السنوات، وتحديًا في مواجهة مقولات عامة بلا اشتراطات موضوعية عن تأثير التكنولوجيا وبيئة الإنترنت المعاصرة على الناس والمعايش.

وفي إحدى أكثر المشاهدات الدالة في هذا السياق هو تنظيم آلاف من الأفراد احتفالية بانتهاء الإغلاق وعودة الحياة في إحدى العواصم الأوروبية، وحضر فيها الجمهور منزوع الكمامات، وحاملا طعامًا وشرابًا ليتقاسم أولئك الغرباء طعامًا على منضدة امتدت بطول جسر شهير، ورغم أن كثيرين من هؤلاء أنفسهم وفي الظروف "العادية" ربما لا يتحملون التواجد مع آخرين والاختلاط بهم، ويفضلون أن يصنعوا عزلتهم الاختيارية تحت مبرر إيثار الراحة، لكن المختلف هذه المرة، أن ذلك كان دومًا اختيارًا طوعيًا تحكمه عوامل شخصية كما أن استمراره أو قطعه ظل مرهونًا برغبة وقرار الشخص ذاته، وعكس ما أحدثته الجائحة.

منحت أزمة كورونا بعدم اليقين المتجذر في التعامل معها ودرء مخاطرها -وما هو لازم أو مفضل من سلوكيات أو إرشادات وقاية- تعبيرًا مهمًا عن السلوك العام للبشر في ظل الجوائح، لم يخضع بعد للدراسة المتعمقة لفهم بعض ما يمكن تسميته بتلك الاستحالات التي لا يمكن أن يعيش البشر بدونها أو تفقد الحياة معناها وسياقها إذا غابت، وحيث مثلت الجائحة تحديًا غير مسبوق للإنسان المعاصر بشأن أفكاره وعلاقته بالآخرين، وفرضت عليه قدرًا من التأمل مأخوذًا بما يحدث في السياق الضيق المحيط به وأيضًا المجال الكوني وعبر الدول، وحيث تشكلت أسوار الحصار ومخاوفه من متابعة كل ذلك على مدار الساعة من خلال الشاشات والقنوات والمواقع ومنصات التواصل.

وقد أدى ذلك عبر ما يتوافر من ملاحظات إلى سلوكين متكاملين متتابعين ونقيضين في تعامل الجمهور مع أخبار الجائحة كونيًا، أولهما وفي البدء ذلك الاهتمام المكثف والمتابعة الدقيقة التي ترتبط وتؤدي معًا بالفزع العام ثم لتنتهي عند حيز التشبع وعدم الرغبة في المزيد ابتعادًا عن المتابعة المفصلة والاكتفاء بمعرفة السياق العام أو حتى عدم المتابعة كلية، وهو أمر ينبع من عدم قدرة الإنسان على الاستمرار في تحمل القلق والتهديدات ومعايشة ضغوطاتهما بشكل يومي وعلى مدار فترة زمنية مطولة، فيحدث رد الفعل العكسي مفضيا لنوع من التسليم المتعايش الذي يتأسس يقينا على دلالة الحديث النبوي الشريف: "أعقلها وتوكل"، وحيث لا مفر من المشاركة والدور ومطالعة وجوه الناس، وحيث الحياة وطرائق خوضها -وكما كانت دومًا- هي "النداهة" التي تعيد نبض الاشتهاءات للنفوس والأرواح فتحيا وتستمر.

إعلان