إعلان

من المقال إلى "البوست"

د. محمد عبدالباسط عيد

من المقال إلى "البوست"

د. محمد عبد الباسط عيد
09:09 م الجمعة 08 مايو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تاريخيًا عرف العالم الحديث الصُّحف بعد اختراع المطبعة، ومع الصُّحف اليومية والأسبوعية والشَّهرية ظهرت المقال بأشكاله المختلفة؛ ليؤدي دورًا مهمًا في تثقيف الإنسان داخل المدن الحديثة المزدحمة، سريع الإيقاع، ويقدّم له وجهات نظر الكُتَّاب والمفكرين فيما يحدث حوله محليًّا وعالميًا، من شؤون السياسة والثقافة والاقتصاد والفنون...إلخ.

وقدّمت الصُّحف -بدورها- عشرات الأسماء المهمة من أساطين كتاب المقال في القرن الماضي، فتعرّف عليهم جمهور القرّاء والمتابعين للصحف، وعلى أيديهم تميزت بنية المقال، بحيث صار شكلًا من الكتابة، يختلف عن غيره من أشكال القول الأخرى، وامتازت أنواع المقال واختلفت حسب موضوعه الذي فرض نوع الأسلوب الملائم له؛ وهكذا امتاز المقال الأدبي عن المقال العلمي أسلوبيًّا، بالقدر نفسه الذي اختلفت به أنواع المقال موضوعيًّا، وأمكن للدارسين أن يقسِّموا المقال إلى مقدمة أو تمهيد وموضوع وخاتمة، وأن يتحدثوا عن بلاغة المقدمة وشروطها، وعن الموضوع وعلاقته بالمقدمة، وعن الخلاصة أو النتيجة وعلاقتها بالموضوع.

لقد ظلّ المقال على امتداد قرن من الزّمان أو ما يربو على ذلك، زاد القرّاء، يستقبلون به يومهم، ويكوّنون من خلاله صورة كاملة أو شبه كاملة عن مجريات الأحداث حول العالم، بالقدر نفسه الذي يتابعون به أحوال مجتمعهم وما يجري فيه من أحداث، ويعرفون وجهات نظر الكُتّاب فيما يجري، وموقف الحكومات...إلخ.

وعبر هذه المقالات رسم القرّاء للكتّاب صورًا ذهنية متعددة، وصنعوا لهم هالات تختلف من كاتب إلى آخر، طبقًا لأسلوبه وتأثيره، ليس هذا فحسب، وإنما تشكلت عبر المقال طبيعة العلاقة بين القارئ والكاتب؛ فالمقال يسير على نحو رأسيّ، من الكاتب الذي يُفكّر إلى القارئ الذي يتلقى خلاصة الفكرة، ويصعب أن يراجع القارئ الكاتب إلا في حالات قليلة ومحدودة بحدود البريد العاديّ، وتوفره من عدمه، فضلا عن رغبة الكاتب نفسه في تلقي رسائل القرّاء أو عدم رغبته، وإذا توفر البريد واطّلع الكاتب على رسائل القرّاء، فسوف تظلّ إمكانية ردّ الكاتب على القرّاء مسألة صعبة، وغالبًا ما يكتفي بالرد في مقال تالٍ، قد يحتاج القارئ إلى مناقشة ما جاء فيه.

وهذا يجعل علاقة الكاتب بالقرّاء علاقة محدودة، وغير مباشرة، وعلى فرض وجودها فهي لن تمنح القارئ دورًا حقيقيًا ينقله من خانة المتلقي أو المُسْتقْبِل (بكسر الباء) إلى خانة المرسِل؛ إذ يظلّ مجرد متلقٍ، ويظلّ المقال رسالة رأسية من أعلى، حيث الكاتب، إلى القاعدة حيث القرّاء، ولعلّ هذا ما منح كُتّاب المقال في القرن الماضي صورة ذهنية هائلة التأثير في عقول القرّاء، ومنحتهم هذه الصورة سُلطة، وجعلت المقال نفسه فنًّا بالغ التأثير، فمجرد أن يُمْهر المقال باسم كاتب معروف حتى يكتسب قيمة مضافة، فوق قدرته الإقناعية وحججه الذاتية، ومن هنا لجأت الصُّحف إلى الصور الاستعارية لوصف كتّابها على سبيل الترويج له ولهم، والاستعارات تتخلق حين "يتسع المعنى وتضيق العبارة"، أو حين تتسع المسافة بين المتخيّل الذّهني والحقيقة غير المُدرَكة، فهنا تبدو الاستعارة أمرًا ضروريًا ولا مفرّ منه، لمقاربة هذه المشاعر العاطفية لدى القرّاء، فمن ذلك: الكاتب الجبار، والكاتب العملاق، والعميد، وأستاذ الجيل، والكاتب الموسوعيّ، وفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة ...الخ.

لقد مارست هذه الاستعارات الوصفية دورًا فاعلا في الدعاية للكُتّاب، وفي تمييز ما يكتبون، وفرضت نفسها على القرّاء أو فرضها القرّاء على أنفسهم، بحيث غدت صورة الكاتب مُعزِّزة لمعنى السُّلطة المضافة إلى اسمه مرة أخرى. ومعروف أنّ الحُجّة الاستعارية والمجازية أصعب أنماط الحجج في الاعتراض عليها أو في ردّها والاختلاف معها... وهل يمكن أن يختلف القارئ العام مع الكاتب الجبار؟ أو مع السيد العميد؟ وكيف يردّ (في الشِّعر مثلا) قصيدة أو أحد أبيات أمير الشعراء؟

لقد خلق المقال بلاغته الخاصة، وطوّر حُججه المختلفة، ودمج أحيانًا بين الكلمة المكتوبة والصورة المرسومة، وطوّرت اللغة العربية نفسها، ليس على مستوى المفردات فحسب وإنما على مستوى الأبنية والصيغ، فتخلت تمامًا عن اللغة القديمة أو اللغة الموروثة، وتحدّث المنظرون عن "اللغة الثالثة" التي تتوسط بين اللغة الفصيحة واللغة العامية، وكان الهدف من ذلك كله، أن يتوفر للمقال أقصى درجات التّأثير على طبقات أوسع من القراء، وإقناعهم بوجهات نظر الكاتب.

وكل هذا منح المقال شكلًا متميزًا، وخلق له استراتيجيات إقناعية وحجاجية متعددة، وصار من الممكن أن نتحدث عن بلاغة المقال، تمامًا كما نتحدث عن بلاغة القصيدة أو بلاغة الرواية والقصة.

ومع الفيس بوك، وثورة الاتصالات الحديثة تراجعت الصُّحف المطبوعة، ومعها تراجعت المقال، وأفسح المجال لأشكال كتابية جديدة، مثل: البوست والتويتة والكوميك... وهي ليست مجرد أشكال تختلف عن المقال فحسب، ولكنها امتلكت بلاغة مغايرة، على مستوى الموضوع والبناء واللغة، وأعادت رسم العلاقة بين الكاتب والقارئ، وقدّمت وسائل إقناعية جديدة وهذا جعلنا إزاء أنواع كتابية جديدة، مختلفة ومميزة، وجديرة بالبحث..

وإذا كان كل شكل كتابي يحمل بلاغته بما هي جزء من هويته الوجودية، فما هي بلاغة البوست..؟

إعلان