إعلان

"قرقر".. تمرين ذهني على الكذب!

د. ياسر ثابت

"قرقر".. تمرين ذهني على الكذب!

د. ياسر ثابت
07:25 م الأربعاء 22 أبريل 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لا نستطيع أن نقترب من الحقيقة إلا بالكذب.

هذا ما يمكن أن يخطر على بالك بمجرد الانتهاء من قراءة رواية "قرقر" (المكتب العربي للمعارف، 2020)، للروائي سليمان القلشي، التي تتضمن درجة ملحوظة من الالتباس، في مزيج غير عادي من البساطة والتعقيد، وغالبًا ما تمزج الروائي بالوثائقي. وهي تعدّ بحقّ مثالًا نموذجيـًا لقدرة الإبداع والفكر عامة، على مخاتلة التسلّط بكافة أشكاله، والمكر به أيّما مكر.

وإذا كانت شخصية "قرقر" قد ظهرت في عمل سابق للروائي سليمان القلشي وهو: "شارع الباجوري" (دار دلتا، 2017)، فإنه حريٌ بنا أن نقرأ وصفه لهذه الشخصية في العمل السابق؛ إذ يقول عنه:

«بعد شراء سندوتشات الفول والطعمية من المحل الشهير بقويسنا، وهو محل "قرقر"، ذلك الرجل العجوز ذو الشخصية القوية الذي لا يستطيع أحد أن يواجهه، ما عليك وأنت تقف أمام "قرقر" إلا أن تصمت صمتـًا شديدًا، تطلب طلبك، ثم تصمت؛ لأنك لو لم تصمت عليك استرجاع فلوسك والخروج فورًا من المحل، فالسيد "قرقر" كان يتمتع بشخصية فولاذية حديدية جعلت منه مثالًا للديكتاتور الكبير الذي لا يقدر عليه أحد. وعندما نتساءل لماذا لا نقدر عليهّ؟!، أولًا: لأن سندوتشات "قرقر" ليس لها مثيل في الطعم من قريناتها من سندوتشات الآخرين، وثانيًا: قوة شخصيته وحركاته المعتادة وهو يعد السندوتشات يجعلك تقف أمامه مبهورًا بتحركاته التي تدعوك في أكثر الأحيان إلى الضحك، ولكن لا يمكن أن تفعلها؛ لأن نهايتك في هذه الحالة هي الخروج من جنة سندوتشات "قرقر"»، (ص 136- 137).

غير أننا الآن أمام شخصية "قرقر" وعائلته التي تمتد حتى الحفيد "علي" الذي يهيمن على النصف الثاني من الرواية، مع ظهور سينمائي متقطع للجد.

في "قرقر" يصمم ويخلق الروائي قطعة أدبية متأملًا أن تجسد بعض الأفكار أو النظريات أو المشاعر عبر محيطها/ محيطه. وتنبع مصداقية الروائيين الكبار، من حقيقة أنها مبنية بطريقة تجعلها طازجة وذات معنى بغض النظر عن الزمان والمكان والظروف التي تقرأها خلالها – وهذا يعني قراءتها بكل بساطة كعمل أدبي.

في وصفه لشخصية "قرقر"، نقرأ:

«هو رجل قصير القامة يرتدي دائمًا جلبابًا مخططًا، يحمل حولًا مميزًا في عينيه، ويعوض نقص حجمه بصوتٍ عالٍ يتناقض مع ضآلته، فرض وجوده على من حوله. وهو يملك أهم مطعم فول وطعمية ليس فقط في المنطقة، وإنما سمّع صيته في جميع أركان شبين الكوم، مثله مثل ماء النيل، من يأكل منه مرة لا بدَّ وأن يعود له مجددًا؛ ليشتري منه مجددًا، فبفضل خلطة بهارات غريبة أكسب سندوتشاته مذاقًا فريدًا لا يقاوم، يختلف عن الجميع».

أما في جغرافية المكان، فيمكن أن نسوق لها مثالًا هو منزل "قرقر":

«مسكن قديم حال لونه وتغبّر بنيانه وحاله يتكون من صالة واسعة تطل عليها ثلاث حجرات، ودورة مياه ومطبخ. مُلحق به "حوش" لا تتعدى مساحته ثلاثين مترًا، هو أول ما يستقبلك إن وصلت للبيت بعد أن تتجاوز البوابة الحديدية التي سدّت مدخله، ترتص داخل الحوش نباتات الصبّار التي تعتمد على نفسها غالبًا في استجلاب الماء وشجرة عريقة عملاقة ضربت جذورها في الأرض وكست فروعها السماء، وفي ركنٍ ظليل تحتها فُرش الحصير تحتها جاهز لاستقبال أي زائر بكل الأوقات».

تتضاءل، بوضوح، الحدود بين الروائي واللا روائي في "قرقر"، فكل شيء فيها يبدو بمنزلة تقرير، إلا أن كل شيء لا يصل إلى الحد المطلوب من حيث كونه رواية لما هو وثائقي، وبالتالي فهو يعد وثيقة حول "رواية": ليس بمعنى تصوير غير الحقيقي، وإنما بالمعنى المحدد جدًا والدقيق للتقنية، بفن بناء الصور.

على سبيل المثال، يحتشد الروائي؛ ليقدم "لقطة مقربة–Close-Up"، ومشاهد من الحياة اليومية لمفتش التموين في دلتا مصر، حيث تتداخل الأمور والمصالح بين بعض مفتشي التموين وأصحاب المخابز ومحال البقالة، وتتفشى وقائع الرشوة والفساد الوظيفي والتربح.

يقدّم القلشي صراع بطله الرئيسي "علي" ومعه آخرون، في وجه ما يخططه لهم المفسدون من حيل ومقالب غاشمة، لإجهاض أحلامهم المسكونة بالرغبة في الحرية والانعتاق، ووأد طموحاتهم وأفكارهم، حين يتربّصون بتلك المواهب والبصائر النافذة، ولا يدخرون جهدًا ولا سبيلًا للجثوم على صدورهم، وكبس أنفاسهم وأصواتهم الحرّة، من خلال مخططات رهيبة تحاول إرغام هؤلاء "المارقين" عن المجتمع/القبيلة، على تجرّع الموت المادي أو الرمزي.

تتكاثر رموز الموت طوال رواية "قرقر" بمشاهد في باحة مقبرة، الوفاة المترقبة للزوجة "عايوشة"، ثم جارتها وصديقتها السيدة العجوز "عزيزة"، التي تتولى رعاية الحفيد "علي" بعد وفاة والده في حادث أليم ورحيل جدته وزواج أمه. هذه الابتكارات تدفع بالمشاهد لإعادة النظر في متغيرات الحياة الثانية ومفهوم الوجود غير المادي.

يعرّج "علي" في سياق استطراداته، على نقد التكلّس الثقافي لطبقته الاجتماعية، كاشفـًا بذلك عن تحجّر مبادئها ومُثلها الاجتماعية، وانغلاق أفقها على عادات وطقوس متقعّرة، يتمّ توارثها أبـًا عن جدّ بشكل صنمي، الشيء الذي ولّد لدى أفرادها ثقافة محافظة، ونمّى فيهم سلوك المثابرة على الاحتراز من أي انفتاح أو تغيير.

وسط أجواء أسريّة ثقيلة وكئيبة، عاش "علي" لحظات مفعمة بالرغبة في الانتفاض والتمرّد، بفعل ما سكنه من بذور الجموح والنفور والعصيان منذ سنّ اليفاعة، لكنّه لم يشاكس بالمرة، ولا شقّ عصا الطاعة عن أحد، وإنّما بقي خلال تلك المرحلة الطويلة من الشباب منصاعـًا، يمتثل لجميع تلك الضوابط المملاة عليه من طرف الأسرة والطبقة.

في المستشفى، حيث كان يعالج من اعتداء بلطجية عليه، يلتقي مع الممرضة "سامية"، ويدرك أن قدرًا ما يجذبه نحو هذه المرأة المتزوجة، التي سافر زوجها للعمل في بلدٍ عربي تاركـًا لها طفلهما لترعاه في غيابه. اقتنع الشاب بأنه يريد الظفر بذلك الجسد، وما ينطوي عليه أيضـًا من أسرار ومشاعر. إلا أنّ الجمال لم يكن وحده هو مبعث ذلك الإغواء، ولا الإثارة الجنسية وحدها هي التي أشعلت فتيل رغبته، وإنما مخطط محكم لاستغلال موقعه وصلاحياته مفتشًا للتموين، كما سيكتشف "علي" لاحقـًا.

هنالك سذاجة محببة لتلك الغريزة التي يضعها أمامنا الروائي عبر الانجذاب الحسي والعاطفي بين "علي" والممرضة "سامية".

إن صور سليمان القلشي الصوتية المعقدة ومقارباته الفلسفية هي تمرين ذهني حاد للقارئ الذي يجد أمامه سبيكة روائية، لا تخلو من حس ساخر وحكايات تنقلك إلى عالمٍ لم تتناوله بهذا الإتقان الروايات عن دلتا مصر وأهلها وناسها.

إعلان