إعلان

 أهمية أن نمتلك دائمًا تذكرة عودة

د. أحمد عمر

أهمية أن نمتلك دائمًا تذكرة عودة

د. أحمد عبدالعال عمر
07:17 م السبت 11 أبريل 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

من أهم مكتسبات فترة الحظر الصحي، التي فُرضت علينا بسبب مخاطر انتشار فايروس "كورونا"، إنها منحت بعضنا هدنة من معركة الحياة المستمرة، وبعض الوقت لتأمل ذاته، ورحلة حياته، وتقدير حسابات المكسب والخسارة فيها. ثم التساؤل عن معنى حياته وقيمتها، وما هو جدير بالبقاء فيها، بعد أن أصبحت -فجأة- مخاطر المرض والموت يهددان وجوده الشخصي، ووجود أحبابه، وحياة العالم كله من حوله.

وأظن أن هذا هو المكسب الحقيقي الذي يمكن أن يترتب على محنة فيروس "كورونا"، عندما يراجع كل منا نفسه، ويُعيد ترتيب أولوياته وأهدافه، طبقًا لمعايير وقيم أكثر إنسانية، وأكثر أخلاقية، وبما يثري وجوده الشخصي، ويجعله أقل اغترابًا عن ذاته، وأكثر سعادة.

وهو ما سوف يتحقق بعد اكتشافه أن السعادة لا تتحقق فقط في امتلاك الأمور المادية، وأن ما يجعل الإنسان سعيداً بالفعل، وما يبقى حقاً، هو شعور بالرضا الداخلي، والتصالح مع الذات، لا علاقة له بما يتصارع حوله البشر في معاركهم الصفرية في الحياة العامة والمهنية.

ولو حدث ذلك بالفعل، وانتقل المكسب المُترتب على تلك المراجعة الفكرية، من المجال الشخصي والأسري إلى المجال الاجتماعي والعام، لصارت مجتمعاتنا وعالمنا بالضرورة أكثر إنسانية وأقل قسوة وبربرية وأنانية وانتهازية.

قديمًا قال السيد المسيح عليه السلام: "مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟".

وهي مقولة تُجسد دستور الحياة السوية نفسيًا وأخلاقيًا، وتجعلني على يقين من أن أهم ضرورات الحياة السوية والإرادة القوية، أن يمتلك الإنسان دائمًا إمكانية تصحيح أخطائه ومساره أثناء رحلة حياته. وأن يمتلك تذكرة عودة إلى ذاته، إلى شغف وبهجة وصدق بداياته الأولى، أرضه الأولى، وطنه الأول، وحلمه الأول.

تذكرة عودة إلى مشاعر وخيرية ونبل الإنسان والطفل والصبي والشاب الذي كان عليه يومًا ما قبل أن تُغيره الحياة والتجارب، وتجعل منه شخصًا آخر، أكثر نضجًا ربما، لكنه أكثر قسوة على ذاته والآخرين، وأقل استمتاعًا بالحياة.

وتلك العودة ليست انسحابًا من ميدان المنافسة الشريفة وطلب النجاح المادي. وليست نكوصًا مرضيًا لمرحلة سابقة في حياة الإنسان، بل هي محاولة إيجابية لتجميع شتات الذات المغتربة عن نفسها، الذات الممزقة في أكثر من اتجاه، الذات التي لم تعد "هي" مع مرور السنين والتجارب.

وتلك العودة أيضاً محاولة لاستعادة لحظات فرح البدايات، وبكارة الإحساس بالحياة، وشجاعة الوجود، والرغبة في الإصلاح والتغيير؛ لأن في الاستسلام لقبح وظلم الأمر الواقع، وفي الولع بالنهايات، شيخوخة وموت الروح، قبل شيخوخة وموت الجسد.

إن الاغتراب عن الذات هو الجحيم الأرضي الذي يعيش فيه الكثير من البشر، دون أن يعبروا عنه أو يشتكوا منه. بل قد نجد بعضهم يخدعون أنفسهم، ويتعاملون مع ما صاروا إليه على غير إرادتهم، وكأنه ثمرة للنضج النفسي والعقلي، وأنه من أهم متطلبات الحياة الواقعية.

ثم فجأة، وفي لحظة صدق ومكاشفة حقيقية، يقف هذا الإنسان أمام نفسه في المرآة، ويتساءل: من هذا الشخص الذي أراه أمامي؟ وكيف صار كذلك؟ وما معنى حياتي وقيمة وجودي؟ ولماذا لم أعد أشعر بالسعادة؟

والمؤلم أن يطرح الإنسان على نفسه تلك الأسئلة، بعد أن يكون فقد تذكرة العودة إلى ذاته، وفقد إرادة الإصلاح والتغيير؛ ليعيش الحياة بعد ذلك وفقًا لقانون القصور الذاتي، بدون أي دافع حقيقي أو بهجة.

وهنا قد يصل به التشوش النفسي وفقدان الرضا إلى الانتحار بدون مقدمات، وبشكل يجعل المحيطين به في قمة الحيرة، وهم يحاولون البحث عن دوافع انتحاره، ولماذا أقدم هذا الإنسان القوي المتوازن على ذلك الفعل، مع أنه كان يبدو سعيداً؟

وفي الصدد أتذكر مصير إحدى بطلات رواية "النسيان" للأديب الكولومبي "إكتور آباد فاسيولينسي" التي قال عنها بطل الرواية: "بدت وكأنها أسعد امرأة في الدنيا، حتى كان يوم، ودون أن تكف عن الابتسام، فرغت رصاصة في حلقها، ولم يعرف أحد السبب".

وفصل المقال، ما أكثر الذين يظهرون أمامنا سعداء، لكنهم ليسوا كذلك، بعد أن فقدوا أنفسهم عبر رحلة الحياة، وفقدوا أحلام شبابهم ومبادئهم ومثاليتهم وشغفهم بكل ما كان يمنح الحياة معنى وقيمة وبهجة حقيقية.

كما فقدوا بشكل تام تذكرة العودة إلى الإنسان الذي كانوا عليه، وهؤلاء يصدق فيهم سؤال السيد المسيح الاستنكاري: مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ وهؤلاء بحاجة إلى مطر من نوع آخر لإحياء أرواحهم ووجودهم، واستعادة أنفسهم، وما كانوا عليه، هو مطر الحب والأمل والإيمان والحياة الجديدة.

إعلان

إعلان

إعلان