إعلان

  تجربة شخصية: سجين المطر !

محمد حسن الألفي

تجربة شخصية: سجين المطر !

محمد حسن الألفي
09:01 م الثلاثاء 25 فبراير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

سأحكي لكم ما جرى لى ولمعظم المصريين أمس، ممن ساقهم حظهم السيئ ليكونوا خارج بيوتهم، داخل سياراتهم، على الطرق الداخلية أو المحيطة، والدائري بالذات.

في السعادة نصبّح على بعض ونقول: نهارك سعيد. لكن... لعل أحدهم صبحني أمس بقوله: نهارك طين!

بالفعل كان نهاري طينا كاملا!

كنت أنهيت حصتي في كلية الإعلام بالجامعة الحديثة MTI قريبا جدا من الدائري في الثانية والربع ظهرا، وخرجت إلى الطريق في الثانية والنصف. نظرت إلى ركام السحاب المحتشد فوق رؤوسنا... هالني أن كان شديد السواد. في حالة فوران متصاعد ببطء. حالة من تهيأ لغضب...

كان موعدي مع زوجتي... بالمطار.

ليس موعدا غراميا. لا أحد يلتقي بزوجته في موعد غرامي.

ذلك كان زمان!

كان موعد اشتياق وضرورة وواجب طبعا... أن تستقبل زوجتك بعد غياب لأسبوعين...

هبطت طائرتها من دبي في الخامسة والربع مساء ووصلت سيارتي إليها بالمطار في العاشرة والنصف!

ثماني ساعات محشور محسور، بكل معنى الكلمة، داخل سيارتي، على الطريق الداعم للدائري، في اتجاه مطار القاهرة الجديد. دخلت الطريق الداعم هربا من احتمالات ازدحام الدائري الرئيسي. ثم إنه الموصل الوحيد الى المطار... عبر نزلة طريق السويس.

مضت السيارة منسابة وفجأة أبطأت كشأن العشرات، فالمئات فالآلاف... وتوقفت شاكيا مزمجرا متوجسا رحلة بطيئة قاتلة.. وهو ما وقع.

بدون مبالغة، أقسم بالله، توقفنا لعشر دقائق، ثم تحركنا لثانيتين... ثم ربع ساعة توقفنا ثم تحركنا لعشرة أمتار... والمطر منهمر يقرع الزجاج أمامك، والمساحات لاهثة تلاحقه، تمسحه فيلاحقها بموجات تلو موجات، تزامن ذلك مع أنفاسي المتلاحقة، امتلأ بها صدري وتخيلت لو هاجمتني ازمة قلبية. الوفاة هي النتيجة الطبيعية. طردت السحاب الأسود الآخذ بضلوعي وحجرات قلبي، وعملت تمارين في التنفس، وسحبت زجاجة الماء البلاستيكية، وتجرعت شفطتين.. كانتا الأخيرتين... ونظرت إلى مؤشر البنزين... كان في بداية الشرطة الحمراء !

ألم أقل إنه نهار طين؟!

ببطء الكسيح... ببطء السلحفاة ..تتحرك آلاف السيارات... والمطر لا يتوقف... كأنما يتخلص من حمولته الثقيلة. عادة أعشق المطر وأعشق القيادة تحت المطر... ولى في ذلك ذكريات من واشنطن وفرجينيا... وصوت حليم أو أم كلثوم... أيام الحنين وأشواق ملتاعة إلى الوطن، وإلى المنصورة وإلى عزبة عقل حيث نشأت في الحي الطيب الهادئ.

المطر المتساقط الآن متوحش... والسيارة أمامها المئات بل الآلاف. وخلفها المئات بل الآلاف. تحولت السيارة إلى زنزانة. أختنق ويصيبني الهلع داخل أي مكان مغلق لفترة تزيد على فترة صعود الأدوار في العمارات والأبراج .

إحساسي بالسجن أصابني بالذعر، واستبدت بي رغبة جارفة في الصراخ. أريد أن أطرد كم الغضب المحتقن بداخلي. بالفعل صرخت: لا... كفاية. حرام... حموت! وتعمدت أن تعلو عقيرتي بالصرخة كأنما أتخلص من حمل ثقيل ..

بعد أن فعلت ذلك نظرت حولي أن يكون جاري أو جارتي عن يميني أو عن يساري رآني. كل واحد كان في مصيبته، منكبا على تليفونه... أو نافخا في زهق...

الناس بدأت تنزل من سياراتها لتحرك أقدامها، والبعض يستطلع الطريق. كان في نيتي مغادرة الطريق الداعم إلى الرئيسي. الرئيسي ذاته انسد بفعل بحيرة الماء في النفق الموجود قبيل أكاديمية الشرطة.

استغرقت المسافة من حيث بدأت إلى هذه المنطقة أربع ساعات !

تراكمت السيارات على الرئيسي... ودخل آلاف البشر المصيدة ذاتها.

وبدأت المغربية والظلام شاحب الملامح... والرغبة في دخول الحمام تتجمع. شاهدت رجلا يتصرف في الرملة الموازية. تمنيت لو فعل مثله كثيرون لأتغلب على حيائي.. مذابا وسط الجموع. لم يفعل أحد. غلبنا الحياء... وتمسكت بالصبر. وتساءلت في نفسي وعيني لم تغادر مؤشر البنزين الهابط... إلى القاعدة مترقبا ظهور علامة البنزينة: كان الله في عون السيدات. ماذا سيفعلن يا ربي؟!

رحت أدعو الله: اللهم يسر.. اللهم لا تعسر... اللهم يسر.

الله كان غاضبا علينا جميعا أمس. لم يستجب.

دعوت بإلحاح المستنجد. لعل الآلاف فعلوا كذلك. لا نعرف الله بصدق وحرارة إلا وقت الهلع والجزع. قتل الإنسان ما أكفره!

لكني رجوت الله بإلحاح...

لست أعرف كيف أخذت حبات المطر طريقها إلى كتفي اليسرى داخل السيارة... بللتها تماما... ووسط حيرتي رن الموبايل. إنه الاتصال المرتقب. جاءني صوت زوجتي:

- إنت فين يا حبيبي. أنا خلصت الإجراءات.

رددت بصبر محاولا توضيح الموقف:

- بصي في الواتس حتلاقيني مش عارف أجيلك ولا بعد أربع ساعات كمان... صور وفيديو حتشوفي المصيبة اللي إحنا فيها على الطريق .

احتجت:

- وما نزلتش بدري وعملت حسابك ليه؟ عموما شكرا.

وأغلقت السكة في وجهي! احتقنت غضبا ..

نزلت قبل موعدها بأربع ساعات... ضاعت في مسافة لا تزيد على ألف وخمسمائة متر!

هي معذورة، لم تستوعب حجم الزحام والمطر. هكذا حقنت نفسي بجرعة تبرير وتصبير .

البنزين اللعين ينذرني بالنفاد.

رن تليفونها ثانية:

- خلي بالك الموبايل فيه شحن ١٧ %!.

قلت بسرعة:

- حافظي عليهم وبطلي تتصلي... لما أقرب من المطار... حتصل بك!

كانت قفلت السكة..

كنت أكلم نفسي .

تفهمت ما هي فيه من حنق... لست أعرف مصدر كمية العقل التي حلت بي.

هبط الظلام... وأصاب المطر الجنون... فواصل الهطول بلا هوادة.

وبدأ الصقيع مع البلل مع الحبس يخنقني... وددت لو طاوعتني دموعي.. استعصت..

ووسط انسحاقي الداخلي كانت سيارة تناور لتحتل الثلاثة أمتار... الخالية أمامي مستغلة سرحاني.

احتلتها السيارة العالية.. بالقوة والانتهازية احتلتها .

هممت أن أزعق وأشتم وأن اشتبك. تراجعت قائلا لنفسي: اهدا يا عمنا... لا يزال المحتل الغاصب أمامك... إنها مجرد ثلاثة امتار يمكن تعويضها إن انفتح الطريق.

لم ينفتح الإ رويدا رويدا... وسنحت فرصة تحت كوبرى زهراء مدينة نصر فركضنا. كالفئران نتسابق...

وتوقفنا، ثم فرصة أمام كايرو فيستيفال... فاستأنفنا التسابق متقاطعين، ومارست العربات حركات بهلوانية.. تتداخل لتسبق فتتراجع!

وواجهتنا بركة هائلة... رحنا نسبح فيها حتى رأيت مستوى الماء موازيا لحافة النافذة...

خضناها بهدوء وترقب...

مؤشرالبنزين أخذ يحذرني فى غضب... ثم في حزن... ثم تركني لحالى يائسا...

أعرف مكان بنزينة بجوار ميراج...

- كم المسافة لو سمحت؟

رد رجل مرور بردان مأفقف من الصقيع يرتدى سترة فسفورية:

- قدامك 3 كيلو بعد النفق!

يا ربي، يا ربي، يا ربي... الصبر!

استسلمت... رن تليفون زوجتى:

- إنت فين؟

هتفت فيها:

- خدي تاكسي وارجعي مفيش فايدة .

- مفيش أوبر ..

- خدي ليموزين.

- عايز 850

- 850 إيه؟

- جنيه يا محمد جنيه بقولك ..

شتمت بقسوة... يستحقونها .

850 جنيه من المطار للمعادي؟

سرقة كاملة واستغلال...

توصلنا إلى حل وقد بدأت تتفهم :

- أوك حنتظرك في كافيه المطار ولو للصبح على مهلك يا حبيبي !

- طب حافظي على البطارية... والشحن اللي باقي !

على مهلى؟ لا يوجد مهل أكثر مما أنا فيه..

هدأت أعصابي... لكن ضغط الرغبة في دخول الحمام يتصاعد... والبنزين يحتضر..

لم أرَ أحدا يغادر ليتخلص من ضغط المثانة الذى يتضاعف بفعل الصقيع ..

صرفت انتباهي بحيلة الاستماع للراديو. نجحت الحيلة خصوصا أن اللاهي كان أتوبيس الزمالك ومناوراته بين كباري وميادين القاهرة وقسم الأزبكية... قبيل مباراة الفريق التي لم تتم مع الأهلي وسط تخمينات وتحليلات وأخبار تتساقط كل ثانية عن خط سير الأتوبيس الثعباني وتعطله كل ثانية .

بينا أنا أتابع وأردد أن شر البلية ما يضحك... والناقد الكبير حسن المستكاوي فى استديو الراديو يضرب كفا بكف غير مصدق أنه يمكن أن تقع مناورة أو مؤامرة صغيرة كهذه لفريق كبير... إذا بمحطة البنزين أمامي وجها لوجه.. وإذا بالتليفون يرن :

- إنت فين؟! فاضل شرطة واحدة في الشحن... حاول تدخل لي.

وقفلت!

وقفت بسيارتي خلف ثلاث سيارات تأخذ بنزينها... تراودني نفسي أن أفر إلى حمام البنزينة... لكنى خفت من مغبة ترك السيارة...

حان دوري... ووضع العامل الخرطوم في فم السيارة وتدفق البنزين في عروقها كالدم في جسد محتضر...

تركت السيارة له، وهرولت، وهو يرمقني متسائلا... هرولت ركضا ركضا تحت حبات المطر... ودخلت الحمام... دخلت .

عدت إلى الحياة !

عدت إلى سيارتي بها بنزين... كثير.

الطريق انفتح

طرت... منتشيا جذلانا

وصلت إلى المطار

اتصلت مبشرا:

- يلّا اخرجي حبيبتي أنا وصلت ..

خرجت .

كانت الريح الباردة شديدة

نزلت من السيارة في الباركينج تحت...

هرولت إليها...

لم أصدق أننا معا.

ضممتها... والكمامة على فمها وأنفها... تساءلت بداخلي عن احتمال العدوى... طردت سؤال الشيطان المنطقي. غلبتني عاطفتي الزوجية: ليكن ما يكون ..

وضحكت في سري: المهم ألا تعطس ..

وضحكنا كثيرا داخل السيارة وهى تستفسر منى في براءة كعادتها :

إنت اتأخرت قوى يا محمد ..

نظرت إليها نظرة استغراب هائلة... فانفجرنا ضاحكين..

وأنا أفتح النافذة قليلا... طردا لاحتمالات كورونا!

وما زلنا نضحك... حتى أمرتني بإغلاق النوافذ!

مَن يقدر على الحكومة إذا غضبت؟!

إعلان