إعلان

موازين القوى بين الكبار خلال العقد القادم

محمد جمعة

موازين القوى بين الكبار خلال العقد القادم

محمد جمعة
09:00 م الخميس 20 فبراير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

خلال السنوات العشرة المقبلة سيعود العالم إلى هيكل القوة متعدد الأقطاب، والذي سيشجع باستمرار على التحول في التحالفات بين دول ومناطق العالم المختلفة، وخلق نظام عالمي أكثر إثارة للجدل.

من ناحية، ستستمر الولايات المتحدة وأوروبا في التباعد، حيث تحاول الأخيرة الحفاظ على تماسكها الداخلي، في الوقت الذي ستتحول فيه الأولى إلى نمط أقل تدخلاً... لن يتجلى ذلك فقط في داخل الناتو والنشاط العسكري، ولكن في نماذج التجارة والضرائب، ومبادرات المناخ العالمية، وسياسات الفضاء الإلكتروني... إلخ.

في هذه الأثناء، ستكافح أوروبا من أجل صياغة هوية جديدة، بعد أن بات واضحًا جدًا أن حلم "القومية الأوروبية" لا يتناسب مع واقع النماذج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المختلفة المنتشرة في جميع أنحاء القارة.

ومن ناحية ثانية، سيستمر التعاون الروسي الصيني في التوسع في نطاق المجالات العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، خلال النصف الأول من العقد. لكن هذا لا ينفى أن الصين وروسيا ستبقيان حذرتين تجاه بعضهما البعض، بل ستبدأ روسيا في مقاومة مبادرات الصين بحلول النصف الأخير من العقد، وسترى أن البنية التحتية الصينية والاتصال اللذين يمتدان عبر آسيا الوسطى (السوفيتية القديمة) وأوروبا الشرقية، وعبر حوض المحيط الهندي، ومن الشمال عبر القطب الشمالي، بوصفه غلافا من ثلاث طبقات لمجال نفوذها السابق. ولهذا من المرجح (بحلول نهاية العقد) أن تتعرض العلاقات الروسية - الصينية لضغوط كبيرة، حيث إن توازن القوى في صالح بكين.

من ناحية ثالثة، فإن استمرار التباعد بين أوروبا والولايات المتحدة، والتحول في موقف الأخيرة من الشرق الأوسط وجنوب آسيا، سيكون له تداعيات كبرى... بحيث ستشهد أوروبا تطورًا مستمرًا لدورها الأمني خارج حدود الناتو. أيضا سوف تندفع كلٌ من روسيا والصين إلى اتخاذ نهج أكثر نشاطًا، الأمر الذي سيضطر بكين إلى الخروج أخيرًا على تحفظها؛ لاستخدام قواتها العسكرية في الخارج.

أيضا ستزيد وتيرة التنافس بين القوى من الطبقتين الأولى والثانية على الهيمنة على الفضاء، سواء على صعيد التنافس في تكنولوجيا الإطلاق وأنظمة الاتصالات، أو عسكرة الفضاء. وستظهر إلى النور أسلحة متقدمة بما في ذلك أسلحة تفوق سرعة الصوت، وأسلحة الطاقة. والمقلق (بالقياس على نموذج كوريا الشمالية) أننا قد نرى تآكلًا إضافيًا للاحتواء النووي خلال هذا العقد.

من ناحية رابعة، فإن أحد أهم الأسئلة الكبيرة خلال العقد القادم سيكون حول دور الأمم المتحدة، وعلى الأخص دور مجلس الأمن... إذ لم يعد الأعضاء الخمسة الدائمون في المجلس يمثلون توزيع القوة والنفوذ العالميين، ومع اشتداد التنافس على المعايير والقواعد العالمية من المرجح أن يكون إصلاح مجلس الأمن قضية مثيرة للجدل خلال العقد القادم. وستواجه منظمة التجارة العالمية أسئلة مماثلة ذات صلة، مدفوعة بالتحول المستمر بعيدًا عن الترتيبات التجارية متعددة الأطراف...

من ناحية خامسة، من غير المرجح أن يفقد الدولار الأمريكي سيادته على النظام الدولي خلال العقد المقبل، على الرغم من استمرار التآكل في مركزيته. الصين ببساطة ليست مستعدة؛ لتحمل تكلفة ومخاطر الترويج لليوان كعملة احتياطية عالمية، بينما تستمر التحديات داخل أوروبا في التأثير على اليورو. وفى النهاية قد تحرز الصين وروسيا تقدمًا في آليات التبادل، حيث الوفرة الزائدة على الحاجة والقدرة على تجاوز سلطة العقوبات الأمريكية.

سادسا، ستشيع إقامة علاقات اقتصادية مع أحد الشركاء وعلاقات أمنية مع الآخر، بينما سيتنافس المتنافسون في المناطق الوسطى بين القوى الكبرى. وفى السياق ذاته، ستظهر تحالفات واصطفافات أصغر عديدة، متمركزة إقليميا أو حول قضايا محددة، تسعى إلى استخدام المصالح والموارد المشتركة للمنخرطين في التحالفات كي تناور الفواعل بشكل أفضل بين القوى الكبرى.. وعلى الرغم من الدعوات لإيجاد حلول إقليمية وعالمية، فإن الدولة الأمة أو حتى القومية الفرعية ستغدو التعبير المهيمن أكثر خلال العقد القادم... إنه عقد ستزداد فيه المقاومة للعولمة المتطرفة، حيث تتعارض أحيانا مقتضيات المصلحة الذاتية الوطنية والمحلية مع اتجاهات النزعة الإقليمية والعولمة. أيضا التقدم التكنولوجي سوف يوزع القدرات، ويقلل من الهيمنة العسكرية لـ"القوى الكبرى".

ومع عدم وجود هيمنة عالمية أو نظام ثنائي القطبية لمحاولة فرض الاستقرار، فإن الولاءات والتحالفات المتغيرة، وتغيير الترتيبات والتدفقات التجارية (وعدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي المتزايد) سوف ينتج عنها عالم أكثر تقلبًا وإثارة للجدل خلال هذا العقد. ووسط هذه التقلبات، ستظهر جيوب من الفرص الاقتصادية والنمو. مناطق مثل جنوب شرق آسيا وشرق أفريقيا، وأمريكا الجنوبية هي التي ستتوفر فيها مثل هذه الفرض نتيجة زيادة عدد السكان وتزايد التوسع العمراني وتطوير البنية التحتية والتوقعات الاجتماعية المتزايدة.

سابعا، يتوقع بعض الخبراء مزيدًا من تفتيت البنية الأساسية للاتصالات والمعلومات على مدار العقد المقبل. تقع هذه الأنظمة عند تقاطع مسائل الأمن القومي، وسيادة المعلومات واستمرارية العمل والحرية الشخصية. داخل هذا الإطار تقدم أوروبا والولايات المتحدة والصين مقاربات مختلفة لإيجاد توازن بين هذه المصالح، وبما أن كل منها يخلق بيئات تنظيمية مختلفة، سيغدو أصعب على الشركات العمل بحرية في جميع المجالات الثلاثة، ما يؤدي إلى إعادة تشكيل سلاسل التوريد التكنولوجية. على مدار العقد، يمكن أن تتفاقم هذه الاتجاهات؛ لتصل إلى إنشاء مجالات مختلفة من البنية التحتية للتكنولوجيا، أي قد نشهد تجزئة الإنترنت. وفى هذا السياق، فإن التنافس على النفوذ في العالم لن يكون مرتبطا فقط بالعلاقة بين الأمم، بل سيتعلق بالتجارة والتكنولوجيا. ويمكن أن يكون لهذا تأثير دائم على تطوير ونشر التكنولوجيات الجديدة، من السيارات الكهربائية إلى الذكاء الاصطناعي، والبنية التحتية للاتصالات، وما يمكن أن نسميه إنترنت الأشياء، أي تحويل كل شيء إلى مواد على شبكة الإنترنت.

وأخيرًا، من ناحية اتجاهات التأثير للتباينات الديموجرافية بين الشمال والجنوب، فالمعروف أن الكثير من الشمال المتقدم يواجه بالفعل ثباتا في عدد السكان أو تناقص النمو السكاني الطبيعي. وسيكون تأثير هذا الاتجاه محسوسًا على مدار العقد القادم. بحيث قد تتحول السياسات الأمريكية والأوروبية المعادية للهجرة، بنهاية العقد، إلى التنافس على اختيار مهاجرين لمقاومة الانخفاض الديموجرافي... بمعنى أن الهجرة قد تكون الحل المطلوب؛ لتخفيف الأعباء الاجتماعية في الشمال والجنوب.

إعلان