إعلان

الأمية الأبجدية والثقافية

عمار علي حسن

الأمية الأبجدية والثقافية

د. عمار علي حسن
07:02 م الخميس 08 أكتوبر 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

الأمية آفة اجتماعية، يكابدها من يقع فيها، ويعاني منها كل من حوله، وترشح آثارها السيئة على المجتمع بأسره. فالأمي به جزء معطل، حتى لو كان يكدح ويكسب ويضيف إلى الحياة المادية الكثير، وهو "فرد ناقص"؛ لأن الإنسان لم يخلق ليأكل ويشرب ويتناسل كالسوام، ولا يعمل فقط كالآلة، لكن ليتذوق ويتسامى ويفهم ويدرك ويربط وينقد ويبدع، وكل هذه الطاقات القلبية والعقلية يمكن أن تتعطل أو يعطب جزء منها جراء الأمية.

وقد عرفت على مدار حياة طويلة في قريتي العزلاء المنسية أناسا أذكياء بالفطرة، طموحين بلا حدود، لكن ذكاءهم وطموحهم كان يصطدم دوما بأميتهم، وكان نهمهم إلى معرفة ما يدور حولهم في العالم الفسيح يقف باستمرار عند حاجز العجز عن فك شفرات الحروف الأبجدية ومعرفة مبادئ الحساب.

ورغم أن بعضهم كانت لديه فطرة أكثر استعدادًا للتقدم في مسالك الحياة، أو كان يملك جينات وراثية ذكية، أو لديه إلهام وتخاطر، فإنه لم يرتقِ إلى المستوى المطلوب، ومع تقدم السنين فاقه من هو أقل منه ذكاء فطريا أو وراثيا لمجرد أنه ذهب إلى المدرسة وتلقى تعليمًا منتظمًا فاكتسب ثقافات ومهارات أهلته لأن يحصد من ثمرات الحياة ما يليق به.

ورغم اتساع رقعة التعليم من الناحية الظاهرة والشكلية وزيادة عدد المدارس في العالم العربي فإن الأمية الأبجدية لم تتراجع، بل حافظت على تواجدها وتتقدم أحيانا إلى مستويات مخيفة جراء تخلف بعض الأسر عن تقديم أولادهم إلى التعليم الأساسي من ناحية، وقيام البعض الآخر بتسريب أنجالهم وأحفادهم من التعليم، دون أن يكونوا قد حصلوا ما يؤهلهم لقراءة سليمة معافاة. وسيطرة بعض الأفكار الخاطئة التي ترى أن البنات لا يجب أن يذهبن إلى المدارس، وإن ذهبن فلفترة محددة، تطبيقًا لمثل يقول: "مصير البنت الزواج"، وقتلا لمبدأ عظيم يحويه بيت شعر عميق لأحمد شوقي يقول: "الأم مدرسة إذا أعددتها.. أعددت شعبًا طيب الأعراق".

وتظهر بيانات الالتحاق بمستويات التعليم الثلاثة في البلدان العربية كافة أن هناك تطورًا كميًا ملموسًا قد حدث، حيث ارتفع عدد الطلاب من 31 مليون في عام 1980 إلى ما يقارب 56 مليون عام 1995، إلا أن المعدل تباطأ فيما بعد نسبة إلى الزيادة المطردة في عدد السكان. ويعزي ذلك إلى تراجع حجم إنفاق الدولة على التعليم، وتضاؤل دور التعليم في الحراك الاجتماعي.

فمن قبل، وعقب الاستقلال، كانت الطبقات الدنيا والمتوسطة تقبل على التعليم إقبالاً شديدًا؛ لأنه كان يعبد أمام أبنائها طريقًا وسيعًا للتحرك إلى الأمام، على مستوى الكسب المادي وتحصيل المكانة.

أما اليوم فالجهاز البيروقراطي للدولة امتلأ عن آخره، ولم يعد هناك مكان لوظائف جديدة، وحتى لو حصل الشاب على وظيفة فإن العائد المادي لم يعد مجزيًا وسط غلاء الاسعار وانتقال سلع عديدة من مجال الكماليات إلى مجال الضروريات.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل إن أعدادًا غفيرة ممن أكملوا تعليمهم حتى نهاية المراحل الجامعية يعانون من "أمية ثقافية"؛ لأن دراستهم اقتصرت على المرور السريع على المناهج المقررة سلفًا، وحتى لو أمعن بعضهم النظر فيها ووعاها عن ظهر قلب، فإنها في حد ذاتها قاصرة عن صنع عقل ناقد ومبدع.

ومن أسف فإن نظامنا التعليمي في العالم العربي ينتمي إلى الطريقة الأولى، التي تعتمد على الحفظ والتلقين، وتوصد الباب أمام الابتكار وإنتاج الجديد والملائم، الأمر الذي حول مدارسنا إلى ما يشبه "الكتاتيب" وحول جامعاتنا إلى مدارس أولية، فضعف مستوى الخريجين، وتضاءلت قدرتهم على أن يحوزوا منهج تفكير مناسبًا في حل مشكلاتهم الحياتية، علاوة على عدم ملاءمة الأغلبية منهم لسوق العمل؛ لأن الجهات التعليمية التي مروا بها، ثم لفظتهم إلى الشارع، لم تعنِ بالتدريب، قدر عنايتها بالتدجين، وتعمدها سلب التلميذ في البداية والطالب في النهاية أي قدرة على التفكير المستقل، وأي منطق لبناء موقف من المجتمع والعالم، بل والكون الفسيح.

وأضر هذا الوضع ضررًا بالغًا بالبحث العلمي، فبات يدور في أغلبه حول "جمع المتفرق" أو "اختصار المسهب" و"تطويل المختصر"، ولم يرق إلى المستوى المناسب في تأدية وظائف البحث الأخرى ومنها "تجلية الغامض" و"استكمال الناقص"، ولا تلوح في الأفق أي بوادر على أنه سيصل عند أغلبية باحثينا إلى المرتبة الأسمى في البحث والتدقيق، وهي "نقد السائد" و"ابتكار الجديد"، وهما مرحلتان مهمتان ليس بالنسبة للعلم ومناهجه فحسب، بل أيضًا بالنسبة للحياة العملية، بمختلف اتجاهاتها ومناحيها.

وللأمية الأبجدية والثقافية أثر ضار على السلوك الاجتماعي، فالدراسات الاجتماعية تبين أن أغلب المنحرفين والجانحين من الأميين، والدراسات السياسية تظهر أن الأمية بألوانها كافة تؤدي إلى تراجع مستوى الانخراط والمشاركة السياسية.

كما أن دراسات التنمية تبين أن تراجع المستوى المعرفي للعامل والفلاح والموظف يؤثر سلبًا على معدلات النمو، من منطلق الدور الرئيسي الذي يلعبه العنصر البشري في التقدم الاقتصادي والرفاه الاجتماعي.

إن تشخيص الأمية ليس صعبًا، لكن الصعوبة تكمن في تطبيق الاقتراحات والدراسات التي بحثت عن سبل لإيجاد "مجتمع بلا أمية".

وأتصور أن المسألة تحتاج إلى إرادة صارمة من الدولة؛ لتطبيق إجراءات محددة ونزيهة وشفافة في هذا المضمار، وتخصيص الأموال اللازمة لذلك، تعين على تقديم مكافآت تشجيعية لمن يسعى إلى محو أميته.

ويمكن وضع شروط أمام المتخرجين من المدارس والجامعات بأن يقدم كل منهم عددًا محددًا ممن ساهم هو في محو أميتهم قبل اعتماد درجته العلمية، وذلك على غرار التجربة الكوبية. ويجب أن يكون الحصول على شهادة محو الأمية شرطًا أساسيًا في تولي الوظائف والسفر للعمل بالخارج وأداء فريضة الحج، ويجب أن يسهم الجيش والشرطة والمؤسسات الدينية في هذا المسألة.

ويمكن أن نستلهم في هذا طريقة "التعليم التكاملي المستمر" التي وضعتها اليابانية يوشيكو نومورا، قاصدة بها التحول من التعليم المبني على المعرفة إلى التعليم الذي يؤسس على الحكمة، والتحول من التعليم الذي يركز على المعرفة العقلية إلى تعليم شامل للشخصية ككل، والتحول من تعليم الثقافة التقليدية لخلق ثقافة جديدة، والتحول من التعليم المرتبط بسنين المدارس إلى تعليم متكامل مستمر على مدار العمر.

وتؤمن هذه النظرية بأن كل شيء في الحياة هو مادة للتعليم الذاتي وأن تعليم الطفل يجب أن يصاحبه تعليم الوالدين والمدرس أيضًا.

إعلان