إعلان

«صائدو الكمأ» ومشاهدات أخرى بالجونة السينمائي الرابع

د. أمــل الجمل

«صائدو الكمأ» ومشاهدات أخرى بالجونة السينمائي الرابع

د. أمل الجمل
04:21 م الثلاثاء 27 أكتوبر 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

الأفلام التي يمكن مشاهدتها في الدورة الرابعة من مهرجان الجونة عديدة ومتنوعة، بعضها يتقاطع أحياناً، لكن البرمجة تتيح لنا إمكانية تعويض ما فاتنا في اليوم التالي. مدينة الغردقة أيضاً لها نصيب من العروض، وهذا أمر جيد. إضافة إلى إمكانية متابعة بعض العروض في مكتبة السينما، أو أون لاين، ولكن بشروط وأوقات محدودة.

«صائدو الكمأ» كان آخر مشاهداتي ليلة أمس. ختام بديع لليوم الثالث من فعاليات مهرجان الجونة السينمائي الرابع. عمل إنساني موسيقي مشحون بأحد أشكال الصراع في الحياة، قطعة سينمائية لها طعم ورائحة ساحرة.

الكمأ هو أحد أنواع الفطر الأبيض. نوع مرتفع الثمن جدا، نادر، له موسم محدد، لا يمكن استزراعه، إنه أحد معجزات الطبيعة، طعمه بديع، وله رائحة خلابة، إن أهم شيء فيه هو الرائحة. إنه موجود في الغابة. غابة بيدمونت الإيطالية. أحياناً يكون مدفونا على بعد مسافات في الأعماق، كلاب الصيد المدربة جيدا تدل أصحابها عليه.

صراع أصحاب المطاعم والصائدين الجدد يجعل بعضهم يلجأ للعنف، يستخدمون السم لقتل كلاب الصيد، ينقبون في الغابات الخاصة. الجيل القديم كبير السن - الذي أوشك على التسعين - والخبير في أساليب صيد هذا الفطر النادر يشتكون، غاضبون، لكنهم لا يستسلمون. البعض منهم يكتب شكوى، البعض منهم يرفض أن يبوح بأسراره، مهما كان كبيراً، وحتى إن ظن البعض أنه على أعتاب الموت، البعض الآخر يواصل الهرب ليلاً من زوجته - التي تمنعه خوفاً على أذيّة نفسه- لمواصلة الصيد رغم مخاطر ذلك على صحته.

فيلم «صائدوا الكمأ» وثائقي إيطالي أمريكي يوناني بتوقيع اثنين من المخرجين مايكل دويك، وجريجوري كيرشاو. يبدأ من لقطة علوية للغابة والرجال ينطلقون خلف كلابهم التي تنبش في الغابة، وتقترب الكاميرا العلوية تدريجيا كأنه اللقطة لوحة تشكيلية.

تنتقل الكاميرا بين الحوارات الثنائية أو الثلاثية وأحيانا الجماعية، حوارات بين المستفيدين من أصحاب المطاعم وبين هذا الجيل المسن الماهر في الاصطياد، حوارات أخرى بين هؤلاء الرجال وكلابهم، سنعيش معهم لقطات رائعة وهم يقيمون حواراً إنسانيا راقيا بليغا أثناء إطعام كلابهم أو أثناء تحميمها ثم تسريح شعورها. تلك العلاقة العذبة الرقيقة الدافئة المليئة بالحب. علاقة تبث الإعجاب والضحك في كثير من اللحظات.

أثناء ذلك ستلعب الموسيقي والأغاني الأوبرالية الإيطالية الشهيرة دوراً رئيسًا في تلك اللقطات، بعض هؤلاء الصيادين سيمارس الغناء بنفسه، بصوت جميل، في الغابة أو أمام بيته. سنشاهد أحدهم وقد بدأ التفكير والبحث عن شخص يستأمنه على كلبه إذا وافته المنية، كأنه يبحث عمَّنْ يرعى ابنا له إذا غاب عن الحياة.

إن فيلم «صائدو الكمأ» واحد من أجمل أفلام العام، ويستحق جائزة أفضل فيلم وثائقي- بلا شك.

كذلك الفيلم الوثائقي «أيام أكلة لحوم البشر» شريط غير متوقع ومختلف، ليس في قوة سابقة، لكنه متميز، عن العلاقات الصينية الأفريقية الناشئة حديثاً والآثار السلبية لذلك في منطقة ريفية ناشئة في جنوب أفريقيا حيث تشهد تغيير قوانين المجتمع، والخلل الذي يحدثه هؤلاء الصينيون في توازن البيئة.

من كمبوديا يأتي فيلم آخر مهم عن كوارث ومآسي الإنسانية ومجازرها، لكنه نص سينمائي حداثي بلغة وأسلوب شاعريَّيْن. يحمل عنوان «مشع» للمخرج الكمبودي الفرنسي الشهير ريثي بان صاحب فيلم «الصورة المفقودة» الذي رشح لجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي عام ٢٠١٤، والذي نال عدة جوائز أخرى من بينها مهرجان كان.

من الأفلام الروائية التي أعجبتني بقوة ثلاثة أعمال، اثنان منها يندرجان تحت توصيف الأعمال البديعة؛ الأول فيلم «لن تثلج مجددا أبدا» من بولندا وألمانيا، شريط سينمائي يعود بنا إلى روح السينما، والقطع السينمائية الأصيلة التي لا يمكن أن تنساها أبدا، وكذلك الفيلم الفلسطيني «٢٠٠ متر» الذي كان مفاجأة كبيرة لي في مستواه الفكري والفني.

والعملان يستحقان الكتابة عنهما وتحليلهما بشكل مستقل. أما الفيلم الثالث «واحة» من الإنتاج المشترك بين صربيا وهولندا وسلوفانيا، فالحقيقة أنني تعاطفت مع أبطاله بقوة في نصف الساعة الأخيرة من الفيلم، ففي هذه المساحة الزمنية تبدأ قوة الفيلم في الوضوح، وتبرز الزاوية المميزة جدا للفيلم، والذي يجعلنا نتساءل عن ضرورة إعادة تعريف مقاييس الذكاء التي يستخدمونها لتصنيف وتمييز البشر، إنه عمل مهم عن ثلاث شخصيات من ذوي الاحتياجات الخاصة، كاشفا كيف أنها تمتلك نفس المقدرة على الحب، والثأر والانتقام، والرغبة في الأمومة، والحزن على الفقدان، والرغبة في الرحيل حين لا تصبح قادراً على أن تعيش مع من اخترته للحياة.

نصف ساعة بارعة قوية، مشحونة بالعواطف، وتقلب مقاييس التفكير رأسا على عقب.

وأخيراً: صحيح أن هناك أفلاما لم تعجبني، ولم أكمل مشاهدتها مثل «حارس الذهب»، وهناك أعمال أضع تحفظات عليها، رغم قوة فكرتها مثل فيلم «الرجل الذي باع ظهره» لكوثر بن هنية، ومع ذلك ما زلنا في اليوم الرابع من فعاليات مهرجان الجونة السينمائي الرابع، ولا يزال هناك العديد من عناوين الأفلام التي نتوقع أن تكون مهمة مثل فيلم «جوزيب»، «ماتادوري المذعور»، و«سقوط» الذي أرشحه بقوة لأنه من توقيع الممثل الرائع فيجو مورتنسن في أولي تجاربه الإخراجية، لكن على ما يبدو أنه مقتبس من حياته، كما أن التريلر الإعلاني يشي بأحداث شديدة الثراء والجاذبية.

هناك أيضاً أفلام جيدة شاهدت بعضها بالفعل، سواء في مهرجان برلين أو مهرجان موسكو، مثل «امسح التاريخ»، أو «صبي الحوت» فلا تفوتوا مشاهدتهما؛ لأنهما من الأعمال الممتعة فكريا وسينمائياً، وسيكون لنا معهما وقفة تحليلية لاحقاً.

إعلان