إعلان

   خبرات ولقاءات في مهرجان موسكو السينمائي الـ"٤٢"

د. أمل الجمل

خبرات ولقاءات في مهرجان موسكو السينمائي الـ"٤٢"

د. أمل الجمل
07:00 م السبت 10 أكتوبر 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

قبل سفري إلى مهرجان موسكو السينمائي الدولي الثاني والأربعين نصحني الصديق العزيز شريف جاد - مدير الشئون الثقافية بالمركز الثقافي الروسي بالقاهرة - بضرورة التواصل مع الدكتور محمد نصر الجبالي، المستشار الثقافي المصري في موسكو. امتدحه طويلا، قائلا: "إنه إنسان لا يشغله سوى الإخلاص لعمله، وخدمة مصر بتأدية واجبه على أكمل وجه".

في الأيام الأولى تواصلنا، واتفقنا على أن نجعل الموعد بعد الانتهاء من مهمتي. جاء اللقاء صباح يوم إعلان نتيجة تحكيم الفيبريسي؛ حيث منحنا الفيلم البريطاني «هيلدا» جائزة اتحاد نقاد السينما الدولي.

أرسل سعادة المستشار سيدة روسية شابة تُدعى داريا لتصطحبني إلى مقر المكتب الثقافي. جاءت إلى الفندق على دراجتها، ثم طوتها، ووضعتها في حقيبة التاكسي. في الطريق تحدثنا عن الأفلام والسينما، طلبت مني ترشيح بعض الأفلام لمشاهدتها. عندما وصلنا أمام المبنى، وبينما كان رجل الأمن يفحص جواز سفري أشارت داريا إلى علم مصر قائلة: سندخل من جوار العلم.

الدكتور الجبالي

منذ الخطوة الأولى لي داخل البِناية شعرت أنني صرت أقف على أرض مصرية بالكامل، فالتماثيل واللوحات الفرعونية رمز حضارتنا العريقة تعانق تفاصيل المكان ورائحة البخور. بشعور كبير بالفخر أجريت حواراً مطولاً مع الدكتور محمد نصر الجبالي. عَرَّفَني على الكتب المتنوعة التي قام بترجمتها من العربية إلي الروسية ومنها رواية عزازيل، كذلك الكتب الروسية العديدة التي نقلها إلى العربية، ومنها «زمن النساء»، وكذلك قصيدة لبوشكين، بعنوان «إلى».

رغم قوة الترجمة ووضوح المعنى المؤثر في سطور وكلمات القصيدة لكنه يقول بقناعة: «لن أمارس ترجمة الشعر مجددا، ولا أنصح بترجمته، لأنه لن يكون مثل الأصل أبدا».

تحدثنا طويلاً حول تجربة الترجمة ورأيه فيها وما يحيط بها من ملابسات. تحدثنا عن طفولته وتأثير والدته.

تلك السيدة المصرية الصميمة من الريف، التي قررت أن تُكرس حياتها لتربية أبنائها وتعليمهم عقب وفاة زوجها في مرحلة مبكرة جدا، إذ كان آنذاك الابن لم يتجاوز الثامنة من عمره. كان مولعاً بالأدب الروسي، ويبحث عن الاختلاف، فالتحق بقسم اللغة الروسية، جامعة عين شمس، وسافر إلى روسيا أثناء الدراسة لمدة عام كامل، ثم أنجز الدكتوراه هناك أيضاً، لكنه قرر العودة لمصر لنقل خبراته لأبناء بلده. وحينما جاءه هذا المنصب لم يتوانَ عن مواصلة عن جهوده، قام بتحويل المخزن إلى مكتبة تم تكوينها بالجهود الذاتية وعبر التطوع.

أصبحت مقراً تقام فيه الندوات وحفلات تقديم الكتب ومناقشتها، أيضاً يتم التنقل بين المكتبات الكبرى لعرض محتويات هذه المكتبة. إضافة إلى قاعة تحمل اسم «خمسة في واحد»، لأنها تتبدل بين المهام فهى حيناً صالة رياضية، أو قاعة إجتماعات، أو مكان لصلاة الجمعة، أو للقاءات الطلاب الدارسين، وغيرها من المناسبات، حيث يحرص المكتب الثقافي على تقديم الدعم للمصريين هناك.

حدثني دكتور الجبالي أيضاً عن استعدادات مصر للاحتفال بعام الصداقة المصرية الروسية، ولكنه أمر يستحق مساحة كاملة.

ولع روسي قديم

منذ اللحظات الأولى، كنت أشعر بالحماس الشديد لهذه الرحلة إلى روسيا، رغم المخاوف، ورغم تحذيرات عدد من الأصدقاء. لدى صور ومشاعر قوية لها علاقة بالثقافة الروسية، خصوصا فن السينما، فأنا مغرمة بكثير من الأفلام الروسية، منذ شاهدت «المدرعة بوتمكين»، و«إضراب البحارة»، و«أكتوبر العظيم»، و«إيفان الرهيب».

تشكل تكويني عبر قراءة النظريات الروسية النقدية، وتأثرت بسمات السينما المنحوتة بأيدي الآباء وآلهة السينما هناك. ثم لاحقاً صرت مغرمة بأحد أشهر مخرجيها، أندريه تاركوفسكي، وليس من فراغ أبدا أنني كرست وقتاً طويلاً من حياتي لدراسة أفلامه، وتأليف كتابين عنه، استغرقا وقتاً وجهدا كبيرين.

كان الأول «القتلة بين هيمنجواي وتاركوفسكي»، وهى دراسة تعد الأولى من نوعها في الوطن العربي؛ إذ أقوم بتوضيح مدى قوة وثراء الفيلم المكون من ثلاثة مشاهد فقط، والذي يتفوق على القصة الأصلية التي سطرها إرنست هيمنجواي، وأثناء الدراسة لا أكتفي بتحليل العمل والمقارنة التفصيلية بينهما، ولكنني خصصت فصلا كاملا لكتابة وتحليل الميزانسين وحركة الكاميرا وأحجام اللقطات وزوايا التصوير، والمونتاج والإضاءة، وزمنية كل لقطة، والملابس وأداء الشخصيات، وذلك رغم أن الفيلم كان مشروع تدريب لأندريه تاركوفسي وهو لايزال في العام الثاني أثناء دراسته للسينما.

أما الكتاب الثاني، فيناقش أفكار أندريه تاركوفسي عن السينما ويفند نظريته عن خصائص السينما التي تحدث عنها بكتابه «فن النحت في الزمن»، ورغم أنني خلال تلك الدراسة أُثبت اختلافي معه حول تعريفه خصائص السينما وأسلوب تمييزها عن بقية الفنون، لكني فعلت ذلك بحب شديد لأعماله، إذ قمت بالمقارنة بين اللغة السينمائية في أفلامه واللغة السينمائية في أعمال الروائي المصري الدكتور شريف حتاتة، لأصل إلى نتيجة مؤداها أن السينما كما عرَّفَها وميَّزها أندريه تاركوفسي تنطبق أيضاً علي سمات الأدب، ومن ثم فإن هذه الخصائص كما ذكرها تاركوفسي ليست مميزة للسينما دون غيرها من الفنون.

كليا وانر

اقتنصت سويعات قليلة بين مشاهدات الأفلام- داخل مسابقتي وخارجها- لزيارة الميدان الأحمر، وبعض المعالم الروسية الشهيرة وبنايات الشقيقات السبع، وارتياد المترو. ساعدتني في ذلك زميلتي السويسرية "كليا وانر" فقد كانت مرشدة رائعة؛ إذ تتحدث الروسية فقد عاشت هناك لبعض الوقت وأعدت رسالة الدكتوراه عن السينما الروسية. كان عنوان أطروحتها «الرجل السينمائي الجديد في السينما الروسية المبكرة»؛ حيث استكشفت الجماليات الجسدية في السينما الروسية قبل الثورة.

إنها فتاة شابة طموحٌ، تلقائية، لديها شغف بالحياة، لديها نظرتها التحليلية التكاملية للعمل الفني، تمزج بين الفنون، تُدَرِّس بالجامعة أستاذا مساعدا للإعلام المرئي، وتمارس كتابة النقد أثناء ذلك. فتدرس النظرية وتاريخ السينما في سينما أوروبا الشرقية، بمعهد الدراسات السلافية في جامعة بازل (سويسرا)، تنشر في المجلات العلمية (المونتاج AV ، التاريخ القاري) وكذلك في المجلات الثقافية والسينمائية (ProgrammZeitung Basel). مثلما تقوم "كليا" بانتظام بتنظيم برامج الأفلام حول سينما أوروبا الشرقية، وتُدير المحادثات مع صانعي الأفلام في العديد من دور السينما والمهرجانات في سويسرا. وهي عضو بجمعية الدراسات السلافية وأوروبا الشرقية والأوراسية (ASEEES) والرابطة السويسرية المهنية للصحفيين السينمائيين و FIPRESCI.

أثناء تلك الرحلة كنت محظوظة لأن الطقس كان رائعاً على غير عادة الطقس في موسكو في شهر أكتوبر. هكذا كان يُخبرني الجميع. كان البرد قليلا، والشمس ساطعة أغلب الوقت، من دون مطر، أو عواصف، فقط يوم الختام بدأت السماء تمطر منذ الظهيرة، فعلقت الناقد السينمائية الشابة ناتاشا - المنسقة والمصاحبة للجنة تحكيم الفيبريسي طوال الوقت لتذليل أي صعوبات - إنها عادة سنوية أن تمطر السماء يوم ختام موسكو السينمائي الدولي، مهما تبدلت مواعيد المهرجان، وأيا كان موعده سواء في الربيع أو الصيف أو الخريف فإنها تمطر دوما، حدث هذا عندما كان موعد المهرجان في شهر أبريل، وفي شهر يونيو، والآن في أكتوبر.

هيلدا ومصر

قبل الختام بيوم واحد تأكدت من مشاركة مصر بفيلم قصير. كان الفيلم مدرجاً تحت اسم فرنسا، لا أدري هل حدث ذلك لأن المنتج الفرنسي هو الذي تقدم به للمهرجان الروسي أم أن هناك سببا آخر! لكن عموما كان الاكتشاف رائعاً، شاهدت الفيلم وأعجبتني تجربة المخرج الشاب سامح علاء وفريق عمله. إنها تجربته الثانية القصيرة لكنها تقول هناك شباب قادمون يفكرون في السينما بلغة السينما.

على مائدة العشاء - عقب توزيع الجوائز ومشاهدة فيلم الختام «على الحافة» - لمحت المخرج البريطاني ريشي بلهام يقترب مني ويقول: «أشكرك على الجائزة». فقد سلمته بنفسي جائزة الفيبريسي ظهر هذا اليوم.

كان يقول كلماته بامتنان شديد، فقد كان هذا الفيلم هو عمله الأول، والذي شارك به من قبل في مهرجان بلندن وخرج من دون جوائز. كانت جائزتنا التي نمنحها باسم اتحاد النقاد الدولي للسينما هى أولى الجوائز، ثم فتحت من بعدها الباب لجوائز أخرى من اللجنة الرئيسية. تذكرته وهو يبكي ويغالب دموعه عقب إعلان فوز فيلمه بجائزة أفضل إخراج.

تأثرت لبكائه ولحالة الارتباك والسعادة التي كانت بادية عليه، انتهزنا فرصة وجود الموسيقار الروسي الشاب أنطوان - خطيب كليا- وانغمسنا في حديث عن موسيقى الفيلم ومهارته في توظيفها لخدمة التيمة الدرامية والتعبير عن شخصية البطلة. قلت له: "يسعدني أن أرشح فيلمك لمهرجانات سينمائية في بلدي مصر".

ختاماً؛ أؤكد أن إقامة الدورة الثانية والأربعين لمهرجان موسكو السينمائي كانت مخاطرة كبيرة، خطوة احتاجت إلى شجاعة وجرأة تستحقان التحية والتقدير، فقد أصر المنظمون على إقامة الدورة مهما تكن الظروف بعد أن تم تأجيلها من أبريل الماضي إلى أكتوبر، ورغم الإجراءات الاحترازية المشددة منذ البداية، فمنذ اليوم الخامس تضاعفت الإجراءات، وأصبح من غير المسموح به عدم ارتداء القفازات داخل مقر المهرجان وقاعات العرض، مع الالتزام بمسافات الأمان، حتى في المطعم لم يكن مسموحاً التجول بين البوفيه من دون ارتداء الكمامة الواقية.

مع ذلك، فإن الشعور بالاطمئنان لم يفارقني، نتيجة التعقيم المستمر، وتنظيم البوفيه، وتقسيم الأطعمة وتغليفها، وحماس الموظفين، وترحيبهم، فالابتسامة الدائمة على وجوههم كانت دوما تُنسينا أننا نضع على وجوهنا كمامة تأخذ قليلا من راحتنا، وتعوق تنفسنا الطبيعي.

مع ذلك، في النهاية، ومن خلال شغف وإخلاص كل فرد شارك في تنظيم هذه الدورة، فقد جعلوا الأشياء تسير إلى الأمام، وتؤكد أن الحياة يُمكن أن تستمر حتى في ظل كوفيد ١٩.

إعلان