إعلان

عباقرة ومنتحرون

د. عمار علي حسن

عباقرة ومنتحرون

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 15 يناير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يتوسل الكاتب خيري حسن بالحكاية في كتابه "أرواح على الهامش.. عباقرة ومنتحرون" مستعينا بما فيها من قدرة على الجاذبية، وما توفره من أساليب فنية مثل الذهاب والإياب في الزمان والمكان، وصناعة المشاهد أو المقاطع المتتابعة، ليدفعها إلى شرايين تحقيق صحفي ثقافي، لا يجعل المعلومات التي جمعها عن أبطال كتابه واردة من بطون الكتب وأرشيف الجرائد والمجلات القديمة فحسب، بل من أفواه شهود العيان، الذين يتوزعون بين أهل وأصدقاء وجيران ذوي صلة بهذه الشخصيات.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: هل نحن بصدد حكايات أم تحقيقات صحفية؟

في الحقيقة، تذوب الحدود والفواصل بين الاثنين، ليس للطبيعة التي يأخذها سرد ما يتعلق بشخصيات كانت متميزة، أو ذات مواهب فائقة، ثم انتهت حياتها إلى السقوط في فخ الانتحار أو الإدمان أو الجنون أو الجوع أو اليأس والقنوط التام، لكن أيضا لحرص الكاتب على أربعة أشياء من خصائص الأدب:

الأولي هي اللغة البليغة، وبعض فنونها من صور لافتة ومفارقات ومجازات وسجع ووصف.

والثانية تتعلق بطريقة السرد التي تنبو عن أن تكون ذا طابع تقريري أو تسجيلي أو تحليلي مثل الذي تأخذه التحقيقات الاستقصائية في الغالب الأعم، لكنه انحاز إلى السرد منذ البداية وإلى النهاية.

أما الثالثة، فهي وجود أبطال يتربعون على عرش حكاياته، وحولهم شخصيات ثانوية متفاوتة الأدوار، والمساحات التي تأخذها في النص.

والرابعة تتعلق بالبناء الذي يأخذ صيغة مشاهد متدفقة تروح وتغدو في الزمان والمكان بانسياب متعمد.

ليس معنى هذا أن الكتاب عبارة قصص متتابعة، حتى وإن حمل بعض الخصائص سالفة الذكر، لكنه خليط ألوان من الكتابة، لا يهدف إلى القص إنما يتوسل به، باعتباره الأسلوب الأجمل والأجلى والأقرب إلى ذائقة كاتبه، وكذلك الأكثر قدرة على إضفاء الحميمية على الشخصيات، أو التعاطف معها، فهي ليست لرجال مال وأعمال أو ساسة رسميين أو موظفين كبار في الجهاز الإداري، إنما أغلبهم من الأدباء والمناضلين السياسيين، الذين هم أشبه بشعراء يواجهون العسف بكلمات بليغة تقترب من أن تكون قصائد، ومواقف نبيلة لا يتخذها سوى أناس عاطفيين حالمين، بل إن اثنين منهم كانوا من الشعراء بالفعل.

ويظهر لنا هذا، منذ البداية، إذ يقول الكاتب: "صفحات هذا الكتاب تحمل بين حروفها وسطورها شموعا ودموعا، وآمالا وآلاما"، ويزيد على هذا حين يميل إلى أن أبطاله كان لديهم ما يستحق الاعتراف والتقدير من مجتمعهم، حين يبين أن "الموهبة كانت هي العامل المشترك بين هذه الشخصيات جميعا، وهي، أي الموهبة، التي عاشوا لها، دون أي نفاق أو كذب أو تضليل أو تطبيل من أجل مال أو سلطة أو منصب أو جاه، وبسبب تلك الموهبة نام بعضهم وراء أسوار الزنازين وهم أبرياء، وعاش بعضهم في عنابر المجانين- وهم عقلاء- مجبرين صامتين لسنوات عديدة، وانتحر بعضهم في ظروف مؤسفة ومؤلمة وحزينة، لتصبح سيرهم في سجلات التاريخ ما هي إلا أرواح على الهامش".

ويصل هذا التعاطف إلى ذروته حين يقر بأن شخصيات كتابه: "عاشت بقلوب بيضاء في مواجهة قلوب سوداء، وعقول ملائكية في مواجهة عقول شيطانية".

تتوزع شخصيات الكتاب على ثلاثة أدباء هم الروائي "رجاء عليش" والشاعرين "بدوي جمعة" و"زكي عمر"، وكاتبين هما "أبو الخير نجيب" و"إسماعيل المهدوي" ومؤلف أغاني هو "سيد مرسي"، وممثل هو عبد المنعم إسماعيل، ولاعبي كرة قدم، أحدهما لعب في أكبر فريق بمصر وهو "محمد عباس" والثاني على مهارته بقي في الظل واسمه "محمد مرسي".

وتأتي حكاية رجاء عليش (1932 ـ 1979) تحت عنوان "دماء على أوراق أديب"، إذ إنه كان كاتبا ميسور الحال، ألّف مجموعة قصصية عنوانها "لا تولد قبيحا" ورواية تتجاوز ستمائة صفحة بعنوان "كلهم أعدائي"، وعول على ما كتب في أن يحقق له اعترافا أدبيا، لكن هذا لم يأت على النحو الذي توقعه، ولهذا قرر أن ينتحر، ويفجر شقتيه السكنيتين انتقاما من المجتمع الذي تجاهله على هذا النحو؛ إذ لم ينصت أحد إليه حتى حين قرر أن يتبرع بثروته لإطلاق جائزة أدبية للشباب، وأرسل بطلبه هذا إلى توفيق الحكيم، ولم يتلقّ ردا، فاضطر إلى اللجوء إلى محكمة ليوصي بها. وكان عليش يؤجل إنهاء حياته كلما وجد خبرا عنه في الصحف مثلما حدث حين نشرت الصفحة الأدبية بجريدة الأخبار، ثم حين كتب ناقدان بارزان دراستين عنه، لكنه في النهاية يضع حدا لحياته، بإطلاق الرصاص على رأسه وهو خلف مقود سيارته.

أما "بدوي جمعة"، فهو شاعر عامية هامَ عشقا بفتاة سمراء، لكنها تزوجت من غيره، فساءت حالته، ولم يجد من يمد إليه يده مأخوذا بموهبته الشعرية، ويفتح له طريقا يقويه على متاعب حياة راحت تضيق به، وتلقيه في آخر الطابور، يعاني الوحدة والفاقة والاغتراب. ومثله كان "زكي عمر" الذي اضطره التجاهل في بلاده للهجرة إلى اليمن الجنوبي وقتها، ليموت في النهاية غريقا، وهو يصارع دوامات الماء واضطرابه كي ينقذ ابنته الصغيرة التي أخذها الموج بعيدا عن الشاطئ.

وقادت المعارضة السياسية كاتبين إلى عسف شديد، الأول وهو "أبو الخير نجيب" الذي سجن قليلا أيام الملك فاروق بتهمة العيب في الذات الملكية، وطويلا في عهد عبد الناصر بعد أن حكم عليه بالإعدام وخفف الحكم إلى المؤبد، رافضا التنازل عن مناداته بالحرية والديمقراطية ورفضه حل الأحزاب السياسية، ومتخليا عن تأييده للضباط الأحرار في البداية.

ولما خرج من السجن لم يجد مقر جريدته، ونسي الناس معاركه، وفي يوم ابتاع دجاجة من الجمعية الاستهلاكية بنقابة الصحفيين، التي طالما جلس فيها وأمامه أرشيفه الخاص على طاولة بسيطة يريه للصحفيين كي يعرفوا شيئا عن تاريخه الحافل بالنضال. وأثناء عبوره شارع رمسيس صدمته حافلة فسقط ميتا.

والثاني هو إسماعيل المهدوي (1923 ـ 1996) المثقف العميق والمناضل الذي اتهموه في أواخر عهد عبد الناصر بكتابة وإرسال أوراق دعائية ضد الدولة، والإساءة للحكم، ثم أودعوه مستشفى الأمراض العقلية، ورفض السادات وساطة عبد الرحمن الشرقاوي كي تنتهي هذه المهزلة.

وفي عام 1984، كتب صلاح عيسى مقالا يطلب فيه الإفراج عنه، وأطلق سيد عبد العاطي حملة صحفية في الوفد دفاعا عنه، حتى خرج من منفاه الغريب عام 1987.

ويتناول الكتاب أيضا قصة الممثل عبد المنعم إسماعيل الذي انحسرت عنه الأضواء في أواخر حياته، بعد مشاركته في أكثر من مائتين وخمسة وثمانين عملا فنيا، فضاق رزقه، ولم يستطع تلبية احتياجات سبعة أبناء، فقرر أن يضع حدا لحياته بتجرع السُّم حتى فارق الحياة في أحد مستشفيات القاهرة.

ويسرد علينا الكاتب قصة مؤلف أغانٍ موهوب عاش قرنًا من الزمن أو يزيد، وولدت حياته الفنية مصادفة، وهو "سيد مرسي" الذي كان يعمل كواء مغرم بخادمة تعمل في بيت الشاعر الكبير مأمون الشناوي، وقد دس لها في ملابس مخدومها قصيدة، وجدها مصادفة، فأتى بها لتعترف له بمن كتبها، فاستدعاه، وأعطاها للموسيقار محمود الشريف، فلحنها وغناها المطرب عبد الغني السيد.

هنا كانت بداية مرسي الذي كتب أغانيَ كثيرةً، لكن الحياة التي أقبلت عليه كانت تدبر عنه بين حين وآخر، فيعاني من شظف العيش، حتى إنه قضى أيامه الأخيرة مقيما في لوكاندة بوسط القاهرة، بعد أن تصدع بيته في زلزال 1992.

وتأتي قصة لاعب الأهلي محمد عباس الذي صار نجما كبيرا يضارع محمود الخطيب في يوم من الأيام، لكنه انزلق إلى عالم المخدرات، متعاطيا فمدمنا ثم تاجرا، لتنتهي به الحال سجينا، وبعد قضاء مدة العقوبة عمل سائق تاكسي، يمضي في الشوارع يلتقط رزقه يطارده الندم.

وأخيرا قصة لاعب كرة طاغي الموهبة في بني سويف، لم يجد ناديا يلتفت إليه، لتنتهي به الحياة معدما شبه مجنون.

إن هذه الشخصيات ليست من صنع خيال الكاتب، ولم يسعَ إلى أن يضيف إليها من مخيلته شيئا، حتى يحافظ على دقة الاستقصاء الصحفي الذي انطلق منه، وعاد إليه مع كل شخصية تناولها، وهي مسألة يتجاوزها كاتب القصة حين يعيد تشكيل الشخصيات التي يلتقطها من الواقع على نحو جديد، لتصبح دوما هناك مسافة بين "الشخصية الفنية" و"الشخصية الواقعية" وليست الأولى سوى الثانية بعين الأديب.

لكن خيري حسن يأخذ من القصة خصائص كثيرة في اللغة والسرد والمشهدية ووجود راوٍ عليم، أو بالأحرى يريد أن يعلم، ألا وهو الكاتب نفسه، وكذلك وجود شخصيات مساعدة، يستدعيها الكاتب كي تساعده في جمع المعلومات، لكنه يلقي بها في نعومة واقتدار إلى مجرى الحكاية لتصير جزءا منها.

هذا يجعل بوسعنا أن نقول إن مدار الحكي يمتد بهذا الكتاب إلى ما هو غير القصة القصيرة بصورتها وبنيتها ومسارها وسيرتها الفنية المتعارف عليها بيننا، وما ألفناه، وأدركناه ممن سبقونا إليها، ليقول لنا بوضوح إن التوسل بالقصة/ الحكاية يكون جاذبا ناجعا في تحقيق صحفي نابه حول شخصيات كتلك التي أتى الكتاب على تناولها.

إعلان