إعلان

"جوجل" الذى يعرفنا ..

د. هشام عطية عبد المقصود

"جوجل" الذى يعرفنا ..

د. هشام عطية عبد المقصود
09:12 م الجمعة 27 سبتمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

أشياء غريبة حدثت لسيكولوجية الناس فى الكون منذ أن عرفوا واستغرقوا ثم استوطنوا ساحات ومنصات وسائل التواصل الاجتماعى، وحتى حلت عبر سنوات قلائل مجالا للحكى والنميمة والحب والملل وما سواهم من أشياء البشر، تلك التى تتجدد مع اتساع فراغات الوحدة والانعزال التى يكرس لها مزيد من استخدام السوشيال كطريقة حياة، وربما كشف نمط استخدام الناس لوسائل التواصل الاجتماعى عن نزعات سيكولوجية تحتاج مزيدا من دراسة، وربما مثلت إظهارا لخبيئة فطرية كامنة فى الأفراد تمثلت فى الرغبة فى إعلان تفاصيل الحياة اليومية على الهواء "من أكلت إيه وحتى رايح فين واشتريت إيه وبكام وإيه رأيكم فيه"، غياب الأسرة والأصدقاء عوضه أو حل محله الإفتراضيون المجهولون الكثيرون الذين صاروا مساحة للمشاهدة والمتابعة فى أوقات الفراغ ثم بعض الوقت وكل الوقت.

نعم تحول ذلك وبعد فترة زمنية وعلى الطريقة المصرية التى تخاف من الحسد والعين التى تصيب إلى تحفظ فى إظهار الأحداث الطيبة والسعيدة والمغالاة فى إظهار السوء درءا للحسد وصدا للنظر، وذلك بعد سنوات طويلة من إظهار وشغف ظهور أبسط وأعقد الأشياء، التى تتضمن أول لقطة للطفل المولود ورسمة بوز البطة الشهير، ومعها تحولت الشاشات القديمة التى كان يجتمع حولها الناس فى البيوت وحجراتها إلى ديكور ثابت وشاشات للعبة البلاى استيشن، وجل بث فردى أحادى انعزالى يخاطب فيه الإنسان أقرانه الفضائيين الذين منحته الصدفة وجودهم الفضائى فى ذات التوقيت على منصات السوشيال، خفف ذلك قى البدء – أو تصور البعض ذلك - من عزلة الفرد قليلا، فأمامه على المنصات الناس يعيشون ويحيون ويبثون مثله، ثم تحول ذلك الى غربة وانعزال. والإنسان كائن تمنحه الخبرة أن يسلط طرقا يسيرة فى التعامل مع مفردات الحياة.

وهكذا نمت وازدهرت شبكات الحياة الإجتماعية على النت لتكون ديوان اللقاءات والحكم والأمثال والهزل والجد العبث والجنون والتأمل أيضا، وأتاحت لمن شاء عابثا و هازئا أو متخيلا وحالما، أن يصنع محتواه ويطرحه فى مزاد المتابعة الكونية بل ويصل به البعض إلى مرحلة " أكل العيش" وبمعنى كل ما يشوفوا الناس فيديوهاتك على اليوتيوب تكسب فلوس، أغرى ذلك البعض بمزيد من التفصيل والانكشاف والحضور المعيب أخلاقيا، فلم يعد الأمر مجرد شهرة بل وأموال أيضا، نقل هذا التحول حالة السوشيال وتفاعلاتها مع البشر الى مجال آخر تماما قل فيه التطبع وزاد التصنع واحترف البعض فيه صنع الصورة المرغوبة.

وقد سرت العدوى الى المثقفين، لقد مجد المصريون القدماء الكاتب باعتبار الكتابة والقراءة مهنة نادرة لايجيدها سوى قلة صنعوا لهم التماثيل وأقاموا لهم الدواوين ايمانا بعبقريتهم، لكن السوشيال ووسائطها أغرت كثيرين ممن ينسجون المقولات العادية ويقصون الحكايات الساذجة ربما أو البسيطة تماما بالكتابة، وصنعت السوشيال تأثيرها، ليحتار البعض كيف لرواية أو كتاب ساذج أن يطبع ويوزع ويتجاوز كل ما طبعه ووزعه مثلا هذا الأديب الكبير أو ذلك المفكر المعروف، إنه جمهور السوشيال وترويج السوشيال والبيع الذى صار ملازما له.

يتم ذلك بتأسيس بسيط وإتاحات يسيرة، وعبر تكنولوجيا متاحة مجانية يتشارك فيها الجميع وتتاح على قارعة التطبيقات، حيث تكفلت جوجل ولوازمها وتوابعها وتطبيقاتها فى وضع البشر تحت رعايتها ودعمها، ووثق جوجل كل ذلك فى أرشيفه الضخم الكبير الذى يمثل ذاكرة الكون وناسه وحياتهم وتفاصيلهم المقربة والبعيدة.

ربح جوجل عبر توظيف أرشيف بشر الكون الكبير، فما إن تطأ عيونك منصاته حتى يُظهر لك ما يرتبط بتفضيلاتك كأنه يعرفك حقا، وليوظف الإعلانات بشكل جديد، ليس إعلانا مباشرا، لكن عبر ربط بروفايل معلوماتك وتصفحاتك واهتماماتك وخصائصك الديموجرافية المسجلة والموثقة بالبائعين والمسوفين للخدمات والسلع وحتى الدعايات المباشرة ذات الأغراض العديدة، فإذا كنت قد طالعت كتابا عن السينما مثلا ستظهر لك كتبا قريبة أو ذات صلة، يصنع الإعلان والدعاية الجديدة جانبا إفتراضيا حميما وقريبا من شخصيتك وطريقتك ونمطك فى الحياة فيغريك بالشراء ويغرى السلع والخدمات ومنتجوها بالظهور لك فى الحيز الجغرافى المناسب تماما لدائرة بيع خدماتهم.

سيصير جوجل كل يوم أكثر قربا منك ومعرفة بظاهرك ودواخلك، شريكا معك فى الاختيار، شيئا كنبضك – أليس هناك تطبيقات تسير معك فى الموبايل تقيس خطواتك وتعدها وتنصحك بشرب أكواب الماء - ليكون صديق الجميع والمقيم الذى لن يكتسى ملامح إنسانية معتادة، لكنه حاضر فى كل حل وترحال سيذهب معك كل الأماكن ويجول معك كبعضك، بل سيتطوع ببقاء صفحاتك أثرا شاهدا على تاريخ حياتك البشرى.

إعلان