إعلان

أصحاب الهمم "1".. بين مجتمعات الأسوياء ومجتمعات المعاقين

د طارق عباس

أصحاب الهمم "1".. بين مجتمعات الأسوياء ومجتمعات المعاقين

د. طارق عباس
09:00 م الخميس 27 يونيو 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لو قِيس التميز والعبقرية بمدى حيوية وقدرة وصحة وقوة الجسد فقط، لَتُوِّجَ الأسد ملكا للمفهومية والنباهة واختير الحمار ليكون واحدا من أعظم فلاسفة هذا العصر، واستَحَق أن يكون شمشون العلم والأدب والفن من هؤلاء السادة الفتوات مفتولي العضلات وكثيفي شعر الصدر والمتعنترين بالأصوات الخشنة العالية، لكن ليست قوة الإنسان الحقيقية في عضلاته أو سلامة بنيانه وعافيته، ففي الغابة وحدها يكون البقاء للأقوى، أما في عالم البشر فالإنسان إنسان بذاته وبوعيه بواقعه وبإرادته في كسر القيود والحواجز وفتح كل النوافذ أمام أي طريق نحو الإصلاح والتغيير، الإنسان إنسان سواء كان سليما أو معاقا قويا أو عاجزا من واجبه أن يُعَلم ويتعلم، يُفَكر ويَتَفَكر، يَحلم ويأمل، يَسعى ويَجتَهِد، الإنسان إنسان طالما كان حرا في اختيار قراره والتعبير عن نفسه وصناعة مستقبله من أجل الارتقاء بالسلوك والفكر والهدف، طالما كان حرا في أن يحيا حياة كريمة تتناسب مع ظروفه وتليق بإنسانيته وبتكريم الله له بعيدا عن كل أشكال التسلط والقهر والوصاية وغيرها من الأمراض المجتمعية التي لا تعرفها سوى المجتمعات المتخلفة التي لا تعرف للإنسان قيمة إلا بحسب ما يملكه من مال ونفوذ وسلطان.

أما المجتمعات المتحضرة فلا وزن للناس فيها إلا بحسب الكفاءة والتفرد، بحسب المستوى العلمي والأخلاقي والثقافي، لذلك ستجد المعاق في تلك المجتمعات يمارس حياته دون عُقَد وبشكل طبيعي تماما مثلما يمارسها غيره، ستجد طموحاته في تلك المجتمعات لا تعرف قيدا أو حدا، لا تعرف الهزيمة ونظرات الشفقة المغلفة بقسوة الجهلاء وقليلي الخبرة والأخلاق والعاجزين عن فهم طاقات الإنسان اللامحدودة، ستجد أن الفرق بين المعاق وغير المعاق كامن في وعي كل منهم بما له وما عليه وإدراكه لقيمة الإبداع وأهمية المبدعين وفي وزنه للإنسان بعقله وطاقاته.

في هذه المجتمعات السوية المتحضرة لا غرابة في أن يكون الكفيف ضابط شرطة أو لاعب تنس أو طبيبا أو عالم رياضيات أو رساما، لا غرابة في أن يكون المعاق حركيا بطلا في سباق الجري أو السباحة أو الملاكمة أو رفع الأثقال، لا غرابة في أن يكون الأصم من أعظم مؤلفي الموسيقى والمشلول رئيس دولة والكفيف وزيرا للداخلية، لا غرابة في أن يفقد الإنسان معظم حواسه ولا يفقد صلته بالآخرين ودعمه لهم ثقافيا وفنيا وتربويا.

إن المجتمعات المتحضرة السوية هي التي تحول المعاقين لأسوياء أما المجتمعات المعاقة فهي التي تجعل من الأسوياء معاقين وتغتال الإبداع والكفاءات وبينهما فرق كبير، تماما مثل الفرق بين بشر ركب الفضاء وبشر ركبته القمامة، بشر وعى قيمة الابتكار والإبداع وبشر لا يجيد سوى التخلص من المبدعين، بشر جعل من الإعاقة نقطة انطلاق للحرية بشر حَول الإعاقة لسجن يتقوقع داخله المعاقون.

في بكين يتدرب المكفوفون على كيفية ممارسة العلاج الطبيعي حتى باتوا أكثر مهارة من غيرهم في ممارسة تلك المهنة التي تعتمد كليا على حاسة اللمس، وفي اليابان وأوروبا هناك طرق خاصة وأرصفة تتناسب مع مقدرة ذوي الاحتياجات الخاصة، أما في بلادنا فالمعاقون يجلسون في البيت و يتنفسون العطالة والبطالة ويسيرون في طرق لا تصلح حتى لأبطال ألعاب القوى، والأرصفة من شدة ارتفاعها تكاد تحتاج لسلالم خشب للقفز فوقها، إذن قوة المعاق كامنة في المجتمع الذي ينتمي إليه ومعاناته تتحدد بحجم الدعم الذي يتلقاه، ولا شك في أن عباقرة ذوي الإعاقة لا يقعون تحت حصر، وكلهم يمثلون نماذج يمكن الاستفادة من تفوقهم العلمي وإصرارهم الذي يستحق أن تُعرَض فصوله ليتابعها كل راغب في الاستفادة والتعلم واليقين في أن قوة الإنسان في سلامة ضميره وعقله وسلامة وجدانه قبل سلامة جسده، وبداية من الأسبوع القادم سأعرض نماذج مشرفة من متحدي الإعاقة ممن أطلقت عليهم "أصحاب الهمم"؛ لأنهم بالفعل أهل لتلك الهمم.

إعلان