إعلان

زياد الرحباني .. الموسيقى وهي تصل انقطاعات الزمان

د.هشام عطية عبدالمقصود

زياد الرحباني .. الموسيقى وهي تصل انقطاعات الزمان

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 12 أبريل 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

منذ ثلاثين عامًا وتزيد عامين وعبر شريط كاسيت منقول عن شريط آخر، ومن خلال خط رقيق يبدو اسم مارسيل خليفة ثم على استحياء اسم زياد الرحباني يفصلهما حرف العطف "و" مطبوعين في منطقة الفراغ الأبيض المحدودة أعلى شريط الكاسيت، على الوجه الأول مارسيل خليفة وأغنية وحيدة للمطرب البحريني خالد الشيخ، وعلى الوجه الثاني يستمر حضور اسم مارسيل ومعه عملان مبكران لزياد الرحبانى، ومن هنا بدأت صدفة الاكتشاف والدهشة، وهكذا وعبر هذا الشريط الأول الآتي من بعيد تشكلت مساحة التعرف الأولى بهذا الإبداع الجميل.

لا تعود من ذاكرة ظلال تلك الأيام غير بلكونة مفتوحة على فضاء شارع متسع، وجهاز تشغيل شرائط الكاسيت الضخم نسبيًا والجديد، والذي انتظرت طويلاً للحصول عليه، فكان أول انتقال – فى حدود منزلنا - من أجهزة الكاسيت ذات الزرين الوحيدين الخاصين بإمكانية تعلية وتخفيض الصوت وفقط، فلا يوجد سوى مكان لشريط كاسيت واحد، إلى جهاز كاسيت تبدى لنا أعجوبةً، فعدة أزرار مصطفة رفيعة متجاورة دبابيس بلاستيكيةً صلبةً رشيقةً يعني كل منها بخاصية ما في الصوت وإضافات أخرى بدت مذهلة في ذلك الجهاز الياباني الضخم الأنيق، إضافة إلى مكان لشريطين متجاورين، وقد كان حدثًا شرائيًا فريدًا تم فيه اقتناص تسامح والدتي -رحمها الله- الجم وتحميلها عبء دفع تمتعي برفاهية إمكانيات الاستماع وتغيير صفات الصوت والتسجيل والنسخ، وكان انتظارًا وترقبًا، واقتنصت الفرصة عبر تقليد كان قد بدأ توًا فى ذلك الزمان هو معرض للسلع "الاستفزازية!" المستوردة تم الإعلان عنه في مجال عملها، فهبطت عليه قرصانًا محترفًا منتقيًا الأفضل والأغلى، وبينما حملته مرةً واحدةً عائدًا بالغنيمة متناسيًا تبعاتها والسعر "الهائل" بمعيار ذلك الزمان بينما أنظر منتصرًا منتشيًا والبائع ينزع قصاصةً صغيرةً بيضاء أعلاه تحمل بيانات الجهاز وسعره، هكذا حملته مكتفيًا ومضيت، وظلت أمي -وكم يبدو لى الآن ذلك قاسيًا- تتحمل كلفة الأقساط الشهرية المتتابعة لهذا الكائن الجديد الذي احتل المساحة المميزة الأكبر إلى جوار الشباك العريض في صالة المنزل.

كم كان ذلك اختراعًا مبدعًا تتجدد فيه اكتشافاتي كل يوم، وكم شغل أوقاتنا وجعلها أبهى كثيرًا، وكم اعتنيت بفهم تغييرات الصوت به؛ لأحصل على أمسيات غنائية وموسيقية وإذاعية وتسجيلات لما أحب، ثم أستمع إليها تتعالى في فضاء رحب يخلو من أصوات هدير البشر، وبعد أن يرخي الليل كثيرًا من ستائره، تاركةً ظلال البيوت منسدلةً في هدوء شفيف وغامض تضيئه من بعيدٍ وبخفوتٍ ساحرٍ ضياءات أعمدة الإنارة المنتصبة كأنها موصولة بالفضاء من فرط امتدادها مصحوبة بوداعة النسمات.

في هذا الصمت المحبب والأشجار البعيدة تتحرك أوراقها وأغصانها بفعل دفعات الهواء المسترخية الكسولة، يبدأ حفل الاستماع، وكان مارسيل ثم الأعمال الأولى لزياد الرحبانى، وتواصلت مسيرة البحث عن جديدٍ وكانت التوصية الملحة لكل من يسافرون هي كل ما يتاح من مارسيل خليفة وزياد الرحباني وكانت الحصيلة قليلة لكنها دومًا غاليةً، ننسخ الشريط الوحيد الآتي إلينا هديةً نفيسةً، وبينما يقود صديقنا العزيز عربة والده الفيات 124 الحمراء إلى حيث الأماكن البعيدة عابرين الكبارى والشوارع فى نهايات الليل، كانت هذه الشرائط دوما فى صحبتنا تضيء مساحات الدهشة وتمنح غناءً جماعيًا مبكرًا عن الحياة التى تحتفي بالتعب والأمل والأصدقاء.

وظل اسم زياد الرحباني حاملاً جمالاً خفيًا وعبقريةً موسيقيةً دافئةً وصراحةً ودعوةً للحياة، يصنع حالة موسيقى خاصة وساحة غناء تعيد ربط ذائقتنا بفيروز من جديد وبثقةٍ أكبر، تطورت تعبيراته الفنية والموسيقية صعودًا نحو اكتمال الذائقة وحسن تجلياتها وتنوعها، انظر مثلاً كيف أضفى تحولاً فنيًا بهيًا ومغايرًا على غناء المطربة لطيفة حين ألف ولحن لها ألبومها "معلومات أكيدة" فبدت لطيفة أخرى أكثر تألقًا وموهبةً، ظل الرحباني زياد يمنح الموسيقى والغناء العربي هامشًا فذًا فريدًا صار يزداد كل يوم باتساع ليصير أكثر جمالاً من كثير من المتون الكبيرة المكررة والعابرة.

يكبر زياد الرحباني ويزداد صمتًا وتقل جلبة حديثه لكن موسيقاه الفذة وألحانه وكلماته تبقى وتنضج ليجتذب إلى ساحته أجيالًا جديدة لم تعش وتدرك البدايات الأولى والإنحيازات الأولى في الحياة، لم يكن هذا المتألق موسيقيًا عابرًا أو حتى مجرد حاملٍ لشارة اللفظ الفخيم "مجددًا" وكفى بها، بل أكبر من هذا كثيرًا، صار هويةً فنيةً واضحةً تحمل عمرًا وظلاً وقمرًا وأيامًا وربما أيضًا حكاياتٍ، تعيد قراءة الثابت وتدرك تباينات المتحول وتمنح دهشتها المتجددة عبر المباغتات الفنية.

جاء زياد الرحباني في جولته الفنية الأخيرة في مصر فإذا بنا نراه أكثر نضجًا وتفلسفًا هادئًا وأيضًا ربما أكثر مللاً – هل بالضرورة يتزاملان!- وبالتأكيد صار أكبر عمرًا وميلاً إلى الإيجاز، فيباغتنا بحجم ما مر من أعمارنا، وتعود معه ذكريات الشرائط الموسيقية الأولى وساعة الجامعة وشوارع القاهرة القديمة ومقاهي عرفنا فيها طعم الأيام حين تصفو، وقراءات كثيرة وبعض تفاصيل الوجوه التي غادرت وحملتها مراكب الزمن المسافرة.

إعلان