إعلان

ما فعله بنا "الإعلام الجديد"

د. عمار علي حسن

ما فعله بنا "الإعلام الجديد"

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 06 نوفمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ألغت شبكة "الإنترنت" المسافات، واخترقت السدود والحدود، مازجة بين الصوت والصورة والكلمة في صيغة رقمية، بعد أن دمجت الحوسبة بالاتصال، وأزالت الفواصل بين العمل والترفيه، وفتحت نافذة وسيعة للجماهير الغفيرة كي تشارك في ثورة اتصال تغير كل يوم أنماط الحياة والتفكير في مختلف دول العالم، بدرجات متفاوتة، وتنتج مشاهد ومعالم وأحوالا لا تُصم عنها أذن سميعة، ولا تغمض عنها عين بصيرة.

وما جرى في الإعلام خلال السنوات الأخيرة هو ثورة بكل المقاييس، يمكن أن نصفها بأنها "ثورة إعلامية" أو اتصالية، تضاف إلى الثورات الناعمة التي يشهدها العالم، والتي تغيرنا من دون إراقة أي قطرة من دم، بعد أن صارت الثورات السياسية نفسها تنساب في سلاسة وسلامة عبر التطور الديمقراطي، كما يقول جون فوران وزملاؤه في كتابهم الأثير "مستقبل الثورات".

والثورة الاتصالية تلك تكسر النماذج الإرشادية التقليدية، متسقة في هذا مع الطفرات المعرفية التي شهدها العالم في العقود الأخيرة، ومن ثم لا يمكن فهمها أو الإحاطة بها اعتمادًا على طرق التفسير التقليدية لأداء الإعلام، ونظرياته البسيطة المعهودة، بل تحتاج إلى اقترابات ومداخل مبتكرة وجديدة تواكب التطور الرهيب الذي يشهده عالم الاتصال.

ولهذه الثورة سمات عدة، سأشرحها في هذا المقام، كنوع من العصف الذهني، أو مجرد طرح أولي ينتظر التعديل بالحذف أو الإضافة. وأولى هذه السمات هي توسيع المشاركة الشعبية في صناعة الإعلام، بما جعلنا نشهد ما يمكن أن يسمى بـ"المواطن الصحفي"؛ إذ بوسع أي شخص أن يكتب ما يشاء ويبثه على الإنترنت في موقع خاص أو مدونة أو حتى في تعقيب على مقالات الكتاب، وأخبار وتقارير وتحليلات وتحقيقات الصحفيين.

وهذا الاتساع حقق كل ما حلم به من كتبوا منذ عقود عن "مسرح المقهورين" متخيلين ومطالبين بأن يشارك المتفرجون في صناعة النص المسرحي وتمثيله.

والسمة الثانية هي تعزيز الفردية التي تتغول دوما بفعل التقدم التقني وتغير بعض أنماط وطرائق المعيشة. فمثلا أدى اختراع الطباعة وتقدمها إلى إنهاء التجمعات البشرية التي كانت تتحلق حول شخص يقرأ لهم مخطوطا، وبات بوسع كل شخص أن يقرأ كتابه مختليا بنفسه.

كما أدى اختراع الساندويتش إلى انصراف أفراد الأسرة عن التجمع لتناول الوجبات اليومية المعتادة. وعلى المنوال نفسه فإن شبكة الإنترنت ستزيد من عزلة الفرد عن المحيطين به مباشرة من أفراد الأسرة والأصدقاء والرفاق، وتعيد دمجه في "مجتمع افتراضي"، ليصبح له أصدقاء من شتى أرجاء المعمورة قد لا يرى وجوههم أبدا، لكنه يتواصل معهم ويقضي بصحبتهم ساعات طويلة عبر "البريد الإلكتروني" و"الماسنجر" و"الشات" و"الفيس بوك" و"اليوتيوب". ومثل هذا الوضع قد يعيد في المستقبل تشكيل الهويات والانتماءات، وقد نرى بعد سنوات اختلافا بين جمهور كرة القدم الإماراتي مثلا ليس حول تشجيع فريقي "العين" و"الوصل"، بل حول تشجيع فريقي "مانشستر يونايتيد" و"ليفربول".

أما السمة الثالثة، فهي إعطاء دفعة قوية لاقتصاديات المعرفة. فإذا كان النفط قد لعب دورا حيويا في الثورة الصناعية، فإن عالم الرقميات ستكون له اليد الطولى في الطفرات الاقتصادية الحديثة التي تسعى جاهدة إلى الاعتماد على بدائل جديدة للطاقة، وإلى إنتاج سلع جديدة، لم يعرفها العالم من قبل.

والرابعة تتعلق بتحدي السلطة، عبر منازعتها في امتلاك وسائل الإعلام، والرد عليها، حين تستخدم هذه الوسائل في التعبئة والحشد وتبرير السياسات القائمة، وتزييف الوعي في شقه المناهض للاستبداد والفساد. وهنا يكسر الإعلام الجديد تسلطية وأحادية ورسمية وقدسية أهداف الإعلام القديم، ويضغط على السلطة من أجل تحسين الأوضاع القائمة، وتغييرها بما يؤدي إلى مزيد من الحرية والكفاية.

وقد بلغ الإعلام في هذا حدا عاليا إلى درجة أنه بات يمثل الرقيب الحقيقي على أداء الحكومات، في ظل نظم تتراوح بين الشمولية والطغيانية، حولت البرلمانات إلى مقهى عام، وسلبتها وظيفة المراقبة، ووظفت دورها في تشريع القوانين لخدمة من هم في سدة الحكم وتابعيهم.

والإعلام الجديد الذي تتآكل قدرة السلطة المستبدة عن حصاره وتقويضه وإسكات صوته سيؤدي بالتتابع إلى تعزيز الحريات الثلاث حول التفكير والتعبير والتدبير، إذ إنه يساعد الناس على الاطلاع على ما يجري في مختلف أرجاء المعمورة من طقوس وطرق تفكير وتصرف، ويفتح أمامهم بابا وسيعا ليعبروا عن آرائهم، ثم يمنحهم وسيلة مهمة لممارسة النضال المدني، حيث يعينهم على التواصل والتعبئة والتحريض على معارضة النظم المستبدة.

لكن الإنترنت يظل هنا مجرد وسيلة وليس غاية، فالدعوة إلى العصيان المدني والإضرابات والاعتصامات من خلال البريد الإلكتروني أو الفيس بوك، إن لم تتبعها استجابة في الواقع فإنها تفقد معناها.

والخامسة ترتبط بالإفراط في استخدام الإعلام كركيزة أساسية في السجال العقائدي الذي يدور في العالم أجمع، بعد أن صار الدين يشكل عاملا بارزا من عوامل الصراع الدولي الراهن، بفعل إزكاء الولايات المتحدة مسار "الإسلاموفوبيا" في سياق بحثها عن عدو عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، من جهة، وطرحها فكرة "الفوضى الخلاقة" التي تقوم على إشعال النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية، من جهة ثانية.

ومع تغول العولمة وعودة الاستعمار التقليدي، بعد أن ظنت الأغلبية من علماء السياسة أنه قد ذهب إلى غير رجعة، يتصاعد دور الإعلام في المقاومة، فتظهر قنوات تابعة لتنظيمات مقاومة، مثل "المنار" الناطقة بلسان حزب الله، و"الزوراء" التي كانت تطلقها المقاومة العراقية. وتظهر أيضا مواقع على شبكة الإنترنت لبعض الجماعات والتنظيمات والحركات المناوئة للولايات المتحدة، وفي مطلعها "تنظيم القاعدة" الذي استخدم هذه الوسيلة في التواصل مع أفراده، بعد تشتته إثر إزاحة طالبان عن السلطة في أكتوبر 2001.

هذه السمات الخمس تضع الإعلام القديم أو التقليدي في تحد واضح، لكن ليس بوسعها أن تهيل عليه التراب كاملا، فنظريات التحديث على اختلافها تنبئنا بأن القديم لا يموت كله، وتؤكد في الوقت ذاته أن القديم لا ينطوي دوما على شرور أو نقائص يجب التخلص منها، بل إن بعضه أجدى للناس من أشياء. وقد ظن بيل جيتس أن الصحف الورقية ستختفي تماما عام 2018 لكن الأمر الواقع جعله يعيد النظر في رأيه، ويعترف أنه لا يمكن أن يقطع بشيء خاص بمستقبل لا يراه، ولا يلم بقوانينه وظروفه كافة. ومن ظنوا أن القراءة على الإنترنت ستؤدي إلى اختفاء الكتاب المطبوع عادوا لينتجوا كتابا إلكترونيا على شاكلة الكتاب الورقي، يمكن أن يصطحبه القارئ إلى مخدعه، ويستمتع بقراءة تحت ضوء حميم. وعلى التوازي زاد توزيع الكتاب المطبوع، ليصل إلى أرقام غير مسبوقة، نرى مثالا لها في رواية "هاري بوتر" التي وزعت ـ حتى الآن ـ أكثر من خمسين مليون نسخة بلغات عدة، ورواية "الخيميائي" للأديب البرازيلي باولو كويليو التي وزعت نحو ثلاثين مليون نسخة.

إن البعض انساق وراء الثورة الجارفة للإعلام الجديد، وظن أن المطبعة ستدفن مع مخترعها الألماني يوحنا جوتنبرج، حين تحل ذكرى مرور أربعة قرون على وفاته عام 2048، أو توضع في المتحف برفقة الفأس البرونزية، لكن الأمور تسير عكس هذا الخط البياني المتوهم، وتثبت أنه من الخطأ الجسيم أن نخلط خلطا ظاهرا بين "الآلة" و"السلعة"، فالآلة المتطورة تنسخ أختها المتخلفة أو تلغيها كلية، لكن السلع الجديدة لا تلغي القديمة؛ إذ لا يزال الناس يستهلكون سلعا كانت البشرية تستهلكها منذ آلاف السنين. والجريدة وكذلك الكتاب هما من صنوف السلع، وليسا من طرز الآلات، ومن ثم فهما باقيان معنا سنين طويلة.

إعلان