إعلان

أبي.. ليت الصمت قد ظل اختيارا..!

عصام شاهين

أبي.. ليت الصمت قد ظل اختيارا..!

عصام شاهين
09:00 م السبت 23 نوفمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

(1)
هدوء تام.. جاء بعد هجمةٍ من المطر أتت على الكهرباء والمارة والمعزّين.. لا أميز هل أغمضت عيني أم لا.. لكن الأكيد أن جسدي استسلم.. أو بالأصح يستعد لأن يقضي أول ليلة منذ ١٧ عاما دون مفاجآت قد توقعتها كثيرا.. لكن كل السيناريوهات المتوقعة تذوب تماما حين ترى الحقيقة.
2))
منذ ١٧ عاما، كطفل يلهو، ويلعب في يوم جمعة سعيد.. قد فرغت من لعب كرة القدم.. أعود للبيت لكنه لم يكن كما تركته.. قد علمنا أن أبي قد أصيب بنزيف في المخ.. يرقد في مستشفى في جدة – السعودية؛ حيث عمل هناك طيلة ١٠ سنوات.. فهمت من حزن أمي أنه أمر خطير.. عرفنا لاحقا أنه سقط في شارع يقترب من بيته.. تركوه حتى أتى عمي.. استغرق الأمر ساعات.. دخل في غيبوبة خمسة عشر يوما.. لكنه قد عاد.. يعود للحياة مرة أخرى.. ولكن فقط بنصف جسد.. أصيب نصفه الأيمن بشلل تام.. لكنه قوته لم تنقص.. أول الدروس أن تقاوم.. حتى الموت تقاومه.
(3)
سأنام ليلتي الأولى من دون انتظار الألم.. من دون توقع للنهاية.. دون انتظار مكالمة تبلغني أنه لم يعد بخير.. وأننا قد نضطر للذهاب إلى المستشفى.. لم أعد مضطرا لاتخاذ أي قرارات مصيرية.. لن نقوم بعملية "شق حنجري" ولن نسمع ضلال الأطباء وفشلهم.. ولن نضطر إلى البحث عن مكان لعيّنة جديدة.. لكن الحزن يبدو أقوى وأقسى.. سأنام ليلتي الأولى بدونه.. أتمنى لو كانت كل الليالي قلقة عن أن تكون كل الليالي بدونه.
(4)
سيعود اليوم أخيرا.. نجهز حقائبنا نحو مدينة طنطا.. نحو بيت عمي.. سيهبط أبي في نفس ذلك المستشفى الذي مكث فيه عمي حين أصيب بعدة جلطات دماغية.. ندخل غرفته ونجهزها.. يشدد عمي علينا ألا نبكي.. أرى من الشرفة سيارة عم عزت سائق والدي المعتاد إلى مطار القاهرة.. ولكنها تبدو مختلفة.. لم تكن محملة بحقائبه الكبيرة.. ولكنها فقط بكرسي متحرك.. ينزل الكرسي، ويُلقى فيه والدي.. يصعد إلينا عينه في أعيننا دون حديث.. نظرة كانت الأشد ألمًا.. كانت كفيلة بإطلاق كل البكاء.. يعنفنا عمي أننا قد خالفنا الاتفاق.. يدخلنا بقوة، ونحاول التماسك.. يخرج عمي، ونسمع انفجارًا في البكاء.. يبكي عمي منهارًا كما لم أره في حياتي.. من قال إن القوي لا يبكي؟!
(5)
خرجت في شرفة بيتنا الكبير، فوجدت نورا لم أره في حياتي.. سماء صافية وأشجار تلمع في الظلام بعد الهجمة المائية.. أعتبرها رسالة جديدة من الله.. أفكر في كرم الله العظيم كيف أمطرت قبل جنازته، وتوقفت أثناءها؟.. ثم عادت بعدها.. أن فتحت أبواب السماء وقت الدعاء.. وأن مهّد الله إليه طريقا يسيرا.. أن صعدت روح أبي دون أن ندري.. وأن طار جسده إلى مثواه الأخير دون أيضا أن ندري.
(6)
لا ندري كيف مرت ١٧ عاما ذاق فيها كل الألم.. وكان يؤمن دائما أنها كل النعم.. يخرج من المستشفى يمارس العلاج الطبيعي.. يتطور.. يقاوم.. يمشي في البيت ويصعد السلم ويأكل بيسراه.. نجلس على الطعام فيجدني آكل كالمنشار بيسراي.. فيتعجب كيف يمكنه أن يجاريني.. لكنه يحاول، وينجح.. يتطور أكثر ينزل إلى الشارع.. يجلس مع أحبائه، ونأتي لنلقي عليه السلام.. تمر السنوات وهو يتطور بيننا، ويمارس طقوسه المعتادة.. تضبط ساعاتك على استيقاظه في الليل ليقيم الليل، ويصلي الفجر.. يوقظنا جميعا، ثم ينام حتى الظهر.. يصلي الظهر، ويمارس يومه بشكل طبيعي.. يحسب كل شيء.. ويعرف كل الناس، ويمتلك ذاكرة حديدية.. يعلمنا دروسًا يومًا بعد يوم.. كيف نصبر على البلاء؟.. كيف نحول الألم أملا؟.. كيف يمكن أن تكون قويا.. أقوى من كل شيء.
(7)
كيف مر هذا اليوم الأصعب في حياتي.. لا أدري.. فقط أتذكر حين استيقظت من يومي يوم الخميس وجاءني نداء لم يخطئ أنها الليلة.. أن الله قد استجاب دعائي أن يجعل يومه- بعد عمر طويل- الجمعة.. حزمت حقيبتي بملابس تكفي لإقامةٍ طويلة.. لم يبلغني أحد بشيء.. ذهبت لعملي.. فرغت منه، ثم سافرت، وغيرت وجهتي من السفر لزوجتي إلى السفر لبلدتي دون أن يعلم أحد.. قررت أن أشاهد مباراة الأهلي في الطريق، وليس في القاهرة.. هاتفي سيغيب عن الوعي بعد قليل.. يحدثني عمي ويسألني بفضول "إنت فين دلوقتي؟".. أتعجب.. لم يحدثني عمي أبدا هكذا.. أجيبه: أنا راجع على المستشفى فيه حاجة ولا إيه؟.. يتوتر عمي، ويجيبني لا لا مفيش.. أدركت حينها دون أن يتحدث.. ذهبت مسرعا لصديقي مجدي في ميت غمر تحدثت مع أختي.. صوتها لا يزال في أذني وهي تبلغني.. خرجت مسرعا في طريق لم أذهب إليه منذ حينها، وركبت معدية لم أركبها منذ حينها.. ووصلت وفي رأسي جملة واحدة.. كن قويا.. لم يكن يحبني أن أبكي.. ذهبت إليه ورأيته.. ييدو كمن فرغ لتوه من طريق طويل.

لم نشعر بأي شيء.. كل شيء انتهى بسرعة لا أتخيلها.. الطريق الأسرع لبلدتنا.. والأسرع نحو الغرفة والأسرع إلى الفجر والأسرع نحو الجمعة.. الغسل الأسرع والتنقل الأسرع كان يتنقل بين الأيدي كقطار سريع سرعة البرق.. حتى وصل إلى مثواه الأخير.. فقط تنقلت من مكان إلى آخر فتسلل إلى قبره.. بدا كأنه كما عهد دائما طيلة حياته.. لا يؤخر موعدا أبدا.
(8)
كانت حياتنا كطريق بدأ صعبا.. ثم أصبح يسيرا.. ولأنه لا توجد في حياتنا طرق ممهدة أبدا.. كنا نصاب بالتعثر أو "مطبات" مقلقة.. كنا نراها عليه.. كشرود ذهنه أو ثقل لسانه.. كانت العشر سنوات الأولى في تحسن.. ثم أصيب بجلطة أثرت على لسانه بعض الشيء والحركة بعض الشيء.. ثم تعثرت متقطعة.. فقد فيها بعضا من الكلام والتركيز.. ثم جاء العام الأخير بمطبات متلاحقة قاوم فيها كعادته.. لكنها أتت حتى على ضحكته الأميز.. ثم جلسته بيننا.. ثم ودع الطعام والشراب.. ثم بدا غير قادر على المقاومة.. أعلنها مستسلما حين طلب الذهاب إلى المستشفى للمرة الأخيرة.
(9)
المرة الأخيرة.. تلك المرة التي سأراه فيها.. يدخل عم مصطفى وعمو مصطفى ليغسلاه.. يبدو نائما مستريحا جميلا كما كان يبدو حين يأتي في إجازاته السعيدة حين كان مسافرا.. يمتلئ بالحيوية والنضور.. كل جسمه المتهالك من الحقن والمضادات الحيوية يشع حيوية.. أوشكنا على الانتهاء وأنا أتمنى تعثرهما.. ثم تأتي النظرة الأخيرة.. "يا عصام.. عايز حاجة".. عم مصطفى آتيا ليغطي وجهه.. أنفجر.. اللحظة الأقسى والأشد ألما أتت لا محالة.. مهما خططت للصمود والنهوض يا صديقي فالحلول غير ممكنة.. لا مجال لحل وسط.. رحل وترك لنا الصبر.. إنما الصبر عند الصدمة الأولى.

(10)
• قال صديقي إن الحزن يبدأ كبيرا ثم يصغر.. لكن أبي لم يقل لي ماذا يفعل حين حزن.. كيف استقبل كل الأنباء السيئة.. وكيف قاوم البكاء والفقد والضعف.. كان قويا شديدا يبدو كصندوق مغلق بإحكام فلا تدري ما بداخله.. ليت الصمت قد.. ظل اختيارا.

إعلان