إعلان

الدروس السياسية والمعرفية لسقوط جدار برلين

طارق أبو العينين

الدروس السياسية والمعرفية لسقوط جدار برلين

طارق أبو العينين
09:00 م السبت 16 نوفمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تحل، هذه الأيام، الذكرى الثلاثون لانهيار جدار برلين الذي كان بمثابة أيقونة لعصر من الصراع بين المنظومتين الليبرالية والشيوعية، إلا أن دروس حدث مهم كهذا يحب أن تكون ماثلة دائماً أمام أعيُن كل مراقب وصانع للقرار السياسي؛ خصوصاً إذا ما كان الحدث يُجسد لحظة أفول إمبراطورية، وبزوغ أخرى على أنقاضها، ومن ثم فإن حدثًا تاريخيًا كهذا له خمسة دروس سياسية ومعرفية مستفادة ومهمة في اعتقادي:

أولها خطورة تجاهل حالات الغضب الجماهيري الفردية؛ لأنها تمثل تعبيراً صادقاً عن الوعى الجمعي للجماهير، برغم بساطتها وعفويتها، فسقوط جدار برلين جاء نتيجة تدافع المئات من مواطني ألمانيا الشرقية تجاه سور برلين لاقتحامه عبوراً إلى الجانب الغربي وهو سلوك تكرر كثيراً بشكل فردي طيلة ثمانية وعشرين عاماً من عمر النظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية بشكل دفع المراقبين الغربيين إلى التكهن بإمكانية انهيار النظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية وبقاء النظام الليبرالي في ألمانيا الغربية انطلاقاً من أن حالات الفرار الفردي كانت دائماً من الجانب الشرقي إلى الجانب الغربي .

وثانيها أن المنظومة السياسية الناجحة فكرياً هي التي تستطيع تحييد خصومها واحتواءهم وتفويت لحظات الصدام معهم كسباً للوقت وادخاراً للقوة؛ وذلك عبر تمييع حالة الراديكالية السياسية وتضييق مساحتها بينها وبينهم، وهو ما حدث داخل المنظومة الليبرالية التي تحدث أقطابها من المفكرين والأكاديميين السياسيين منذ خمسينيات القرن الماضي عن نظرية التلاقي بين النموذجين الاشتراكي والرأسمالي، عبر إدماج بعض القيم المؤسسية والاجتماعية الاشتراكية داخل النظام الرأسمالي، بما يقلل من احتمالات حدوث ثورة اشتراكية داخل تلك المجتمعات الرأسمالية، يكون وقودها إحساس الفقراء والمهمشين بالظلم الاجتماعي الناجم عن عدم عدالة توزيع عوائد النمو الاقتصادي بينهم وبين طبقة الأغنياء، وبذلك تتقلص الحاجة الوظيفية للأيديولوجيات السياسية بما تحمله من دعوات ثورية ويتشكل المجتمع ما بعد الإيديولوجي، وذلك وفقاً لأطروحات عدد من علماء الاجتماع المنتمين إلى المنظومة الليبرالية، وعلى رأسهم الأمريكي دانيال بيل ومواطنة سيمور ليبست، وهو الأمر الذى أقر بنجاحة للمفارقة عالم الاجتماع الألماني اليساري البارز رالف داهرندوف، باعترافه أن المجتمعات التي كانت رأسمالية قبل نهاية الحرب العالمية الثانية قد أصبحت ما بعد رأسمالية في الفترة التي تلت تلك الحرب، وشهدت نجاحها في تطبيق نظرية التلاقي.

أما ثالثها، فهو فشل النمط الشمولي في التفكير بفعل ما يلازمه من تنظير لأيديولوجيات تنبؤيه تزعُم وتدعي قدرتها على صناعة التاريخ أو التكهن بنتائج حوادثه، عبر حتميات تاريخية أو معادلات فلسفية سابقة التجهيز تنتمى إلى مدرسة فلسفة التاريخ، وهو ما حدث مع المنظومة الشيوعية، عندما تبنت مفهوم الجدل (الديالكتيك) الذى دشنه الفيلسوف الألماني هيجل، معتبراً أنه المفهوم المؤسس لكل حدث تاريخي، وبغض النظر عن مدى نجاعة ذلك المفهوم علمياً، وقد اعتبره الفيلسوف البريطاني برتراند راسل مجرد هراء، فإن هيمنته على الفكر الماركسي قد دفعته إلى السقوط المُريع في فخاخ القولبة والجمود، بل الغرور النظري الفارغ بفعل تبني مفهوم مشكوك في صحته علمياً مع إيمان كل المفكرين اليساريين بإمكانية التحكم من خلاله في عملية صناعة التاريخ والتنبؤ بمساراته، وهو إيمان يقيني أقرب للعقائد الدينية منه للفلسفات السياسية.
ورابعها هو خطورة هيمنة المنطق الاختزالي على أي تصور سياسي ومعرفي، وقد حدث ذلك في التجربة الشيوعية على صعيدين الصعيد الأول هو الصعيد المعرفي عندما تم اختزال كل حقائق التاريخ والثقافة والأيديولوجيا في العنصر الاقتصادي ممثلاً في الانتماءات الطبقية وعلاقات الإنتاج بين العمال وأصحاب العمل، فأصبح هذا العنصر وحده مهيمناً وصائغاً لكل تلك الحقائق.
أما الصعيد الثاني، فهو الصعيد المجتمعي عندما اختُزل المجتمع كله في طبقة واحدة، هي طبقة العمال (البروليتاريا)، فتم التعاطي معها باعتبارها الرافعة المجتمعية الوحيدة للنظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، في ظل التطبيق الاشتراكي، بما كرس حرمان المجتمعات الاشتراكية من أي تعددية سياسية أو فكرية حتى لو كانت مقيدة مثل حجم طاقاتها وقدراتها البشرية.

أما خامسها وآخرها، فهو فشل الفكر الأممي في تدمير الهوية القومية للدول إذا كانت تستند في تكوينها إلى جذور تاريخية ومعرفية عميقة، وهو ما حدث في حالة الأمة الألمانية التي نجت بفعل رسوخ هويتها القومية وعمق البعد الثقافي المُكون لها من حالة التفتيت والتشرذم التي مرت بها أغلب جمهوريات الاتحاد السوفيتي، عقب انهياره، بعد أن نجح النظام الشيوعي في محو الثقافة القومية لتلك الجمهوريات التي وحدها تحت رايه خطابه الأممي، بعدما طمس هويتها القومية.

إعلان