إعلان

انتصار أكتوبر.. وسجال الدين والعلمانية

طارق أبو العينين

انتصار أكتوبر.. وسجال الدين والعلمانية

طارق أبو العينين
09:00 م السبت 05 أكتوبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

على الرغم من عظمة انتصار أكتوبر المجيد، الذي محا الآثار المروعة سياسياً ونفسياً لهزيمة مصر في 5 يونيو من عام 1967، ومكّن بلادنا من استعادة سيادتها على أرضها المحتلة، فإنه قد أفرز على هامشه صراعاً فكرياً ضخماً، كشأن غيره من الأحداث الكبرى في تاريخ مصر.

والصراع هنا مرده بؤرة توتر خلقتها ردة فعل التيار العلماني تجاه الدور الفعال لمؤسسة الأزهر الشريف وقت الحرب والذى تمثل في رفع الروح المعنوية لجنود جيشنا العظيم قبل وأثناء خوضهم معركة العبور، فهذا الدور دفع أقطاب التيار العلماني إلى انتقاد مؤسسة الأزهر وعلى رأسها الشيخ عبد الحليم محمود (رحمه الله) وقد بلغ غضب التيار العلماني ذروته بعد خطبة شيخ الأزهر في الجمعة التي تلت حرب أكتوبر مباشرة وقال فيها إن السيد حسين الشافعي، نائب رئيس الجمهورية وقتها، قد أنبأه أنه رأى في المنام رسول الله (صلي الله عليه وسلم) وأنه تجول معه على الضفة الشرقية لقناة السويس، وقد طالب نائب الرئيس شيخ الأزهر بإبلاغ الرئيس السادات بتلك الرؤيا لتبشيره باقتراب النصر على العدو.
فتلك الخطبة دفعت التيار العلماني إلى الانتفاض دفاعاً عن العقلانية في مواجهة تلك المحنة المتمثلة في توظيف المؤسسة الدينية الرسمية للغيبيات، سواء في مرحلة الإعداد للحرب بتحفيز الجنود على القتال لاستعادة الأرض أو بعدها بتفسير نتائجها تفسيراً دينياً، وقد رصد المؤرخ والكاتب الماركسي الراحل صلاح عيسي في كتابه الشهير (مثقفون وعسكر) فصول تلك المعركة الفكرية ودور المثقفين فيها في مواجهة ما وصفة بتيار الخرافة، وفى مقدمه هؤلاء المثقفين المفكر الكبير الراحل فؤاد زكريا الذى نشر في الأهرام يوم 18 نوفمبر من عام 1973، أي بعد اندلاع المعركة بشهر واحد - مقالاً بعنوان (معركتنا والتفكير اللاعقلي) أبدى فيه دهشته من انتشار هذا الفكر، بعد العبور الذى كان عملاً عقلياً بحتاً مؤكداً أن الاستسلام لهذا المنطق في التفكير يعنى تقليل دور الجندي المصري في انتزاع النصر بدمة وعرقة وشجاعته، كما يعنى أيضاً أن العلم والتخطيط والحسابات لم يكن لها إلا دور ثانوي في حسم المعركة، مشيراً كذلك إلى أن الإيمان الذى قادنا إلى تحقيق هذا النصر ليس الإيمان بقوى غيبية تحارب معنا، بل هو إيمان الإنسان المصري بضرورة تحرير الأرض من المحتل وبأن هناك قضية عادلة تستحق أن يضحي المرء من أجلها بحياته.
ولأن التفكير العلمي يقتضي- حسب مقولة الفيلسوف البريطاني ألفريد وايتهيد - الانطلاق مما هو خاص ونوعى لاستنتاج ما هو عام وشامل، فإن هذا السجال الديني - العلماني بشأن حرب أكتوبر يفتح الباب في اعتقادي أمام نقاش أوسع بشأن علاقة الدين بالعلم ومدى انعكاس تلك العلاقة على المجال العام، وهنا يثور تساؤلان مهمان:
الأول هل يمكن أن يقف الإيمان بالغيبيات الدينية حائلاً دون التخطيط العلمي المدروس والأخذ بالأسباب واللجوء إلى المعرفة العلمية بشقيها الطبيعي والإنساني طلباً لحل مشكلات الواقع وتحقيق الأهداف المنشودة؟
والثاني هل يعني إسهام المؤسسة الدينية في الحياة العامة تدييناً للمجال العام وتهميشاً لفكرة الدولة المدنية أو تقليلاً من حجم إنجاز مؤسساتها؟
أعتقد- من وجهة نظري المتواضعة- أن الإجابة عن هذين السؤالين تقتضى أولاً التفرقة بين مفهومي (العِلمانية) بكسر العين، و(العَلمانية) بفتح العين.

فالأول مشتق من العِلم: أي طلب المعرفة العلمية والأخذ بأسبابها في مجال محدد ومستقل بذاته بُغية تحقيق هدف أو درء ضرر.
والثاني مشتق من كلمة العالَم: بما يعنى أن الواقع الدنيوي المَعيش هو غاية نهائية ليس بعدها غاية أخروية، ومن ثم فلا دور للدين هنا في تشكيل حياة الناس أو التأثير عليها بأي صورة من الصور.
فالأمر اللافت- في اعتقادي- هو خلط التيار العلماني بين كلا المفهومين عند الحديث عن علاقة الدين بالمجال العام؛ لأن كل العقائد الدينية السماوية تنطوي بشكل أو بآخر على قدر من العِلمانية التي تعنى توظيف المعرفة العلمية لحل مشاكل المجتمع، ومن ثم تحديد الدائرة التي يهيمن عليها الوحى السماوي وفصلها عن بقية الدوائر الأخرى التي تتطلب الاجتهاد البشري وحده وصولاً إلى مرحلة الفصل النسبي للدولة عن الدين والكهنوت، وذلك بحسب إشارة المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري في كتابة المهم (العَلمانية الجُزئية والعَلمانية الشاملة) الذي أكد فيه أن هذا الفصل بين الدولة والكهنوت أمر حتمي الحدوث في كل المجتمعات، باستثناء بعض المجتمعات الموغلة في البدائية والبساطة؛ ففي المجتمعات المركبة نوعاً ما، يبرُز تمايز بين السلطات أو المجالات المختلفة، ومن ثم فالمؤسسة الدينية لا يمكن أن تتوحد مع المؤسسة السياسية في أي تكوين سياسي وحضاري مركب.

بل إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد أقر بهذا الفصل والتمايز المؤسسي في حديثة الشهير: "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، وصولاً إلى تأكيده على هذا الفصل حتى في الأمور التي تتعلق بالجهاد نفسه، كما حدث في غزوة بدر، عندما أخذ النبي بمشورة الحباب بن المنذر وغيره عن مكان جيش المسلمين بالقرب من ماء بدر، بعد أن سأل الحباب بن المنذر- رسول الله: "أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال رسول الله بل هو الرأي والحرب والمكيدة". فغيّر موضع تمركز الجيش لقناعته بصحة رأى الحباب بن المنذر بما يؤكد على مبدأ الفصل بين الوحي والحرب والخديعة كانعكاس للتمايز المؤسسي بين المؤسسة الدينية وغيرها من مؤسسات الدولة.
وهو ما يعني في النهاية أن إسهام الدين في المجال العام عبر قنوات الدولة الرسمية الشرعية، بدءًا من رفع الروح المعنوية للجنود أثناء الحرب أو تشجيع المجتمع على زيادة الإنتاج وإتقان العمل، وصولاً إلى دور الدين الحقيقي في إتمام مكارم الأخلاق عند الناس- لا يعني انتقاصاً من دور العلم أو سطواً على المجال العام أو ردة إلى جهالات الخرافة، بل يعنى أن للإنسانية غايةً أكبر وشاملة ونهائية فوق جميع غاياتها الآنية، ألَا وهى معرفة الله حق المعرفة.

وفى إطار تلك الغاية الشاملة، يمكن للإنسان تحقيق كل الغايات الآنية بحرية مطلقة عن طريق العلم والاجتهاد والتخطيط، دون الوقوع في أسر الرؤية الداروينية والعدمية للعالم التي تفرزها حتماً عملية العَلمنة الشاملة للمجتمعات بفعل تمركزها حول الإنسان وحده بعيداً عن أي غايات مطلقة ونهائية للعالم.

إعلان