إعلان

كرة القدم والموت ومحمد عبدالوهاب

كرة القدم والموت ومحمد عبدالوهاب

حازم دياب
02:40 م الأحد 02 سبتمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لا تحب أغلب الفتيات الكرة، وينازعهن الكراهية بعض المشتغلين بالثقافة. تقول الفتيات إنّها من كماليات اتجاه الرجال لتوافه الأمور، وانشغالهم بما لا ينفع عما ينفع. يقول بعض المثقفين إن جلوس الناس أمام لعبة وكرة جلدية، مجرد مشهد عبثي من المشاهد الطاغية على المجتمعات. بالطبع لا مانع من انخراط نذر من هؤلاء وأولئك في السنين الأخيرة في متابعة ما يكرهون، نظرا لإقامة بطولة وطنية أو كأس عالم، وفي السنة الأخيرة لوجود محمد صلاح في حياتنا. يعود الأمر لرغبة في عدم العيش بمنأى عما يشغل العالم بأسره.

كل فرد يكفل له وجوده في الحياة حرية أن يختار. يختار محو لفظ كرة القدم من حياته. يختار أن تكون حياته. هذا من المفترض أنّه ناموس الكون، لكن أن تَصِم الآخرين بفقدان الأهلية للاختلاف يرسّخ أن القناعات بالحرية عموما تنتج طالما كانت توافق الأهواء. فكّرت كمهووس بكرة القدم أن أخوض في أسباب شغفنا الشديد كملايين بالكرة، وترتيب نظام حياتنا، ومواعيد حتى زواجنا بناء على جداول المباريات. أو كما يقول أحدهم "هدف لفريقي بمباراة مهمة في الدقائق ما بعد التسعين يشبه في نشوته الجنس". حسناً. لن أبرر، لأن الحب لا يحتاج لمبررات، لكن أطياف هذه الأفكار شغلتني وأنا أطالع تقويم نهاية أغسطس.

ترتبط الذكريات بالأيام والأشهر والأعوام. لا تطيق شهرا لأنّك فقدت فيه أحد الأحبة، تترقب يوما لأنّك وقعت فيه في الحب. نهايات الشهر الثامن من العام تذكرني بوجه بدأ العشرينيات وأنهاها لتوّه منذ عامين. قادم من الأقاليم محمّلا بأحلام النجاح، وجعل الأهل يفخرون بسلالتهم. شاب صعيدي، قصير القامة، أيسر الأطراف، قمحي البشرة، أجعد الشعر، دائم الابتسامة، حائر النظرات. محمد عبدالوهاب، حامل القميص رقم ثلاثة، القادم من سنّورس بالفيوم من أسرة بسيطة اجتماعيا، ارتفع شأنها لعنان السماء حين انضم الابن إلى نادي القرن في إفريقيا، وحصد البطولة القارية ممثلا لمنتخب بلاده. لكن كل هذه الأضواء خفتت فجأة في نهار الواحد والثلاثين من أغسطس لعام ٢٠٠٦.

كانت فاجعة للناس عموما، حيث الموت الفجأة لشاب وسريان هاجس "ابن موت" عليهم، وعلى متتبعي الكرة ومشجعي النادي الأهلي بصفة خاصة. يقول مانويل جوزيه مدرّب الفريق وقتذاك: "لقد فقدت جزءاً مني في هذا اليوم. فقدت شيئاً لن أعوضه أبدا. لا أعرف لماذا انتابني هذا الإحساس، لكنه ما زال يراودني كلما نظرت إلى صورته".

كثير يتعاطف مع موت من لا يعرف. يدعو له، ربما يقرأ له الفاتحة أو يصلي له بالغفران. في النهاية هو ليس من بقيّة أهلك، وطالما لم تجمعك مع الراحل ذكريات، فإنك محظوظ بعدم مصاحبة مزيد من الوجع في مستقبلك. لكن رحيل عبد الوهاب نشب داخلي حفرة من الحزن. شعرت بها مع رحيل أقرب الناس لي. كان كأحد أفراد العائلة. لا أدري سبباً محدداً لذلك. هل هو ولعي بالنادي، أم نظرتي له كشاب أراد النحت في الصخر واقترب من تحقيق الأحلام، لكن الحياة لم توافق على ذلك؟ ربما حين قرأت في سيرته: الانتماء بلا شروط، الأخلاق بشكل أقرب للمثالية. من يحظَ بإجماع الناس وحبّهم بلا مصلحة، يكُن في الأغلب شخصاً فعلا جيداً بما يكفي ليشكل رحيله خسارة للعالم والإنسانية، ولا سيما أنه في الأعوام التالية رحل كثير من الطيبين بما دفع العقل للتساؤل الأبدي: لماذا لا يموت الأشخاص السيئون، ويخطف الموت أفضل من فينا؟

يقول محمد أبوتريكة، أحد أهم أساطير الأهلي: "ثمار الأرض تُجنى كل موسم، لكن ثمار الوفاء تجنى كل لحظة. رحمة الله عليك يا صديقي محمد عبدالوهاب كان نموذجاً للوفاء".

الشخصيات العامة، خاصة إن كانت تنتمي للقوى الناعمة، حين تغادر الحياة، تثير في النفس الأحزان. يتدرّج الأمر من الساسة والفنانين والمثقفين. مشهد واحد لجنازات أم كلثوم وعبدالحليم وأحمد زكي وهستيريا الحزن فيها كفيلة بتوضيح الحالة. أناس يبكون رحيل نجومهم، لكن في فنونهم الخالدة ما يبرّد القلب. النسيان أيضا يلعب أدواره. الحزن منذ سنوات، ليس حين تتذكره. كذلك الفرح. محمد عبدالوهاب ترك إرث بعض الأهداف الصاروخية. عرضيات تضع كل من لعب في مركزه في مأزق. كان لحب الكرة الجنوني أثر كبير في كابوسية الحزن.

جماهير الأهلي خلدت رحيل لاعبها رغم عدم استمراره لسنوات في الملاعب وحصده البطولات بما يمنحه الحظوة. لا يغيب عبد الوهاب عن أغاني الجماهير حتى الآن. يكون هتافهم التحفيزي للاعبين في كل بطولة قارية "إفريقيا يا شباب.. وحياة عبدالوهاب". النادي يحتفي بذكراه كل عام، وحين قدم اللاعب سيد معوض ليحتل مركزه استأذن والدته في ارتداء رقمه. الهالة التي أحاطت برحيله كان يستحقها. كان من أسباب الصدمة عدم تعوّد الناس على وفاة لاعب كرة قدم، نظراً للفحوصات المستمرة، وممارستهم الرياضة بشكل دائم. يمنح ذلك الرياضيين صك الاطمئنان. لكن في السنين الأخيرة مات أكثر من رياضي بشكل غير متوقع. الموت لا يعرف الحقائق أو يعترف بالمتوقع. يقول الشاعر محمود درويش:

"فإن الموت يعشق فجأة، مثلي ... وإن الموت، مثلي لا يحب الانتظار"

لا يمكن التغاضي عن أن فاجعة رحيله تقلّصت. لا ينساه الأهلاوية تماماً كشهداء المدرّج. يتذكّره الصحفيون والرفاق في الذكرى. الأكيد أن الموت لا يوجع سوى الأقربين فحسب. والدته تقول إنه- باستثناء محمد أبوتريكة- انفض من حولها الناس. الزحام الذي يخفف من وقع الصدمة انحال فراغاً يدفع بالأحزان إلى التضخم. سوف تندم كل يوم على حياته التي لم تكتمل. تسأل الخالق في إيمان: "لماذا ابني بالذات؟". تستعيذ بالآيات من شيطان يدفع بالهواجس لرأسها. تتذكر لحظة ميلاده. لعبه في الألومنيوم وإصراره على مغادرة الصعيد مرفوع الرأس. شيء كبير غادر تفاصيل حياة الأسرة الصغيرة في سنورس بالفيوم. كأن تشعر بأن ثمة أمراً ناقصاً في زواجك، عملك، صداقاتك، علاقتك بأبويك. هم يشعرون بذلك- وحدهم- كل ليلة في الحياة بأسرها. يقول الأديب مصطفى صادق الرافعي: "الموت ينتزع الروح، والهجر يترك الروح كأنها منتزعة، فهو موتٌ لا ينتهي".

إعلان