إعلان

التحليل النفسي لنزيف الأسفلت

التحليل النفسي لنزيف الأسفلت

د. براءة جاسم
09:00 م السبت 18 أغسطس 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تقولُ منظمةُ الصحةِ العالميةِ إنَّ حوادثَ الطرقِ تسبّبت فيما يقاربُ المليون وربعَ المليون حالة وفاة سنويًّا، وأنَّ أكثرُ من ٦٠% من الضحايا ما بين ١٥ و ٤٤ عامًا، و٧٧% منهم ذكور، هذا بالإضافةِ إلى أنّ ما يقارب الـ٢٠ - ٥٠ مليون شخص في العالم يعاني من إصاباتٍ أو إعاقاتٍ ناتجةٍ عن هذه الحوادث، وحسَب إحصائياتِ المنظمة فإنه إذا لمْ توضَعْ خطةٌ للتقليلِ والحدِّ من انتشارِ حوادثِ الطرقِ فستكونُ هذه الحوادث في عام ٢٠٣٠ هي سابع أسباب الوفاة بشكل عام.

ومن العواملِ التي تسبّبُ هذه الحوادثَ على سبيلِ المثال لا الحصر، السرعةُ والانشغالُ عن الطريق باستخدامِ الهاتفِ الخلوي أو بتشغيلِ الموسيقى العالية أو بعدمِ التركيز، وكذلكَ تعاطي الموادِّ المخدرة وعدمُ الالتزام بقواعدِ القيادة الآمنة كقيادةِ مركبةٍ دون التأكدِ من صيانتِها أو عدمِ وضعِ حزامِ الأمان أو عدمِ ارتداءِ الخَوْذةِ في حالةِ قيادة الدراجات الناريّة، ناهيكَ من عدمِ الالتزامِ بقوانينِ المرور... إلخ.

ويدرسُ علمُ النّفسِ المروريُّ العلاقةَ بين العمليةِ النفسيةِ وسلوكِ مُستخدِمِي الطرقِ بهدفِ التقليلِ من الحوادثِ ووضعِ حملات توعيةٍ وبرامجَ للعلاج والتأهيل، وبينما يرى الكثيرون أنَّ القوانين الرادعةَ وتغليظَ العقوبة وسيلةٌ فعالةٌ لخفضِ معدَّلِ حوادثِ الطرق، يرى آخرونَ أنَّ التركيزَ على تنميةِ المعاييرِ الأخلاقيّة كـ"الالتزام الداخلي" أكثرُ أهميةً للحد من الحوادثِ والمخالفات، فهو الذي يوجِّه سلوك الأفراد في غياب السلطة فيجعلُ الالتزامَ بالقواعد والأخلاقيّاتِ نابِعًا من القناعة الذاتية بتطبيقِها دون النظرِ إلى الثوابِ أو الخوفِ من العقاب.

وقد توصَّلَ علمُ النفسِ أيضًا إلى أن هناك عملياتٌ نفسيّةٌ معقدةٌ تحدثُ لقائدِ السيارة عندَ جلوسِهِ خلفَ عجلةِ القيادةِ كأنّه يتحوّلُ لكائنٍ آخر يختلفُ تمامًا عن ذلكَ الذي يمشي على رجليْه، فيقومُ بممارساتٍ قد لا يقومُ بها في أوقات أخرى نتيجةً لشعوره بالحماية داخل السيارة، وهذه العمليات النفسيّة مشابهةٌ للتحوّل النفسي الذي يحدثُ للكثير منّا ويظهرُ أثرُهُ عبرَ شبكاتِ التواصلِ الاجتماعي، فلا نُدركُ حجمَ العدوانية التي تتلبّسُنا، كأن نصرخَ ونوجّهَ الشتائمَ لغيرِنا سواءٌ لمن يترجّلون أو لقائدي السيارات الآخرين، ومن الغريبِ أيضًا أنَّ قائدي السياراتِ يمارسون الطبقيّةَ حتى في السيارة، فتزيدُ العصبيةُ والضوضاءُ والشعورُ بالنرجسيّةِ لدى صاحب السيارة كلما غلا ثمنُها ونوعُها وزادَ حجمُها.

ويستمرُّ هذا التحولُ الملحوظُ في التضخمِ ليمتد إلى الاعتقادِ بأننا الأفضل على الطريق، وتقولُ الإحصائيات أن ٨٠ ـ ٩٠% من الأشخاصِ يُقيّمونَ أنفسَهم على أساس أنهم من ذوي الذكاءِ فوقَ المتوسط (تأثير كروجر)، وأنهم يمتلكونَ زمامَ الأمور على الرغم من أنَّ هذا غيرَ حقيقي، فيظنُّ السائقُ خطأً أنه أمهرُ وأنَّ لديهِ القدرةَ على التنبؤ بأفعالِ الآخرين وحركتِهِم، في حين أنَّ هذه الثقةَ الزائدةَ تؤدّي إلى حوادثَ كثيرةٍ، إذ تكون المعلوماتُ والإشاراتُ التي يستقبلُها المخُّ أكبرَ بكثيرٍ من قدرتِنا على التعاملِ معها إذا لمْ يكن التركيزُ عاليًا جدًا عند القيادة.

ومن الطريفِ أن قائد السيارة يظنُّ عادةً أنَّ سيارتَه تحميه فيحوِّلُها إلى عالَمٍ خاصٍّ به لدرجةٍ تُشعرُهُ أنه غيرُ مرئيٍّ داخلها، وهذا هو ما يفسر قيامَ بعض الناس بسلوكيات لا يقوم بها عادةً أمام الناس، فتجدُ بعضهُم يعبثُ بمنخارِه محاولًا تنظيفَهُ بِإصبعِه، أو إحداهُن وقد أخذَها الاهتمامُ بنفسِها حتى رأتْ أن تضعَ مساحيقَ التجميلِ في أثناءِ توقُّفِ إشارةِ المرور.

وكما ذكرتُ من أسباب تؤدي إلى الالتزامِ بقواعدِ المرور كتغليظِ العقوبةِ القانونيةِ للمخالفين، أود التأكيد على أنه لا بديلَ عن الوازعِ الأخلاقيّ والمسؤوليةِ الذاتيّةِ لدى كل فردٍ والتي تحميه -حتى إن وُجِدَ في مجتمعٍ عشوائي مخالِف- من الانسياق للعقلِ الجمعي الذي هو أشبه بالوباءِ المنتشر، فتكونُ مسؤولية الفردِ ذي الوعي أقوى من غيرِه وأقدرَ على حماية نفسه وغيرِه من أي إهمال.

إعلان