إعلان

ألفة الموجودات

ألفة الموجودات

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 16 مارس 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يرى البعض ذلك ويعتبره حقيقةً ثابتةً، وهو أن بعض صفات البشر يمكن أن تدركها من خلال بعض أشيائهم الخارجية، أحذيتهم مثلاً، فكرة غريبة، ولكنها تظل أحد ابتكارات البشر للتغلب على قدرة ملامح الوجه على المراوغة وتدرب الناس على إخفاء مشاعرهم وتلقائية تعبيراتها على الوجوه، فيتجه البعض باحثاً عن ملامح وسمات في الملبس أو في المأكل وكذلك في الحذاء.

هو نوع طيب من تزكية الوقت، عندما نتأمل الفكرة مليًّا، سنعتبرها امتداداً تلقائيًّا لموضوع شغف الناس حبًّا، أو لهواً أو دعابة بموضع الأبراج، إذ قلما تفلت من سؤال في زمن ما عن برجك، سيصر البعض عليه سؤالاً يبدو لطيفاً، ستنشغل في أول مرة بجدوى ذلك وسببه، ثم حينما يتكرر لن تملك أن توجه سؤالك الكبير: هل يصلح ذلك وقد بلغ عدد سكان العالم نحو سبعة مليارات ونصف المليار نسمة تقريباً، بأن يقوم البعض استسهالاً بتقسيم صفات كل تلك المليارات في أبراج عددها 12 برجاً، يعني باختصار: هل يصلح وضع ما يقرب من مليار بشري تحت سمات برج ما قرر "متعبقرون" أنهم تحت صفات برج ما كبرج الحمل أو الحوت أو سواهما، فيكونون جميعاً سواء في صفاتهم وخصائصهم الإنسانية؟، فلتمضِ تسلية البشر ما شاء لها الزمان سبيلاً.

تعود فكرة توظيف الحذاء كجزء من كشف بعض خصائص الشخص لتجعلني أقول فلنبحث في الأمر عكسيًّا، بمعنى هل للأحذية ذاتها ملامح نعرفها بها، يعني عبر طول الوقت والمكوث، هل يمكن أن نمنح أحذيتنا بعض سماتنا أو نضفي عليها وصفاً ما؟

نظرت نحو الحذاء الذي أُدخل كل رباط منه في عجلٍ إلى أحد الثقوب في المساحتين الممتدتين على جانبيه، تأملت شكله، كان ضيقاً قليلاً، أردت التأكد من مقاس الحذاء -الذي صار ثابتاً من زمن طويل- رفعته إلى أعلى قليلاً، وملت برأسي بينما أحدق مدققاً في أرضيته، كان الرقم 45 قابعاً في ركنه العلوي بهدوء.

أعدت النظر إلى الأحذية التي في الدرج محاولاً رسم ملامحها في تاريخها القريب والبعيد معي، نعم، يمكن لها أيضاً كموجودات أن تكون لها إضاءات من أنفسنا عليها.

هناك مثلاً الحذاء القريب دائماً إلى قدميك، صاحبك في المشاوير القصيرة اليومية، بسيط، ومتاح، فلا تشعر بخدمته وجهده سوى عندما - لسبب أو لآخر- يتوه في مكان ما، وتدرك حين تستعد لمشوار "عادي" بغيابه المهم، لا يجعلك ذلك أبداً تعيد تقويم مكانه في صف الأحذية، بل فقط ستمنحه مزيداً من اهتمام غاب عنه كثيرا.

هناك أيضاً ما يمكن تسميته الحذاء الصدفة، الذي أحضرته في يوم صرت لا تتذكره، يتوه تاريخ وجوده، فلا تدري في أي مناسبة ولأي سبب قمت باختياره، تظل تبعده عن عينيك كلما هممت بالخروج، ويظل دوماً متحركاً– ذلك الجماد- ليذكرك بوجوده فتختار نهاية طيبة، حيث تضعه هناك في ركن قصي، حيث لا يمكنه أن يصل إليك.

وهناك حذاء رافقك في مناسبة ما جميلة تظل حفيًّا به، وحريصاً على تخير الوقت المناسب لتختبر حظه الطيب مرة أخرى، يظل في مكان ثابت، يأخذ وضعيته المتألقة منتظراً مشواراً حلواً جديداً، ثم هناك أيضاً حذاء قديم له مودة، ربما هو ليس بجودة أحذية أخرى تجاوره، لكن تظل مقدراً لقدرته على الاستمرار واجتيازه الطرقات الصعبة. ثم ما يسمى بحذاء التفانين، وهو به حداثة ما، بعض من زركشة خارجية لم تعتدها، يصلح لطرق ومهمات يشبهها كثيراً.

ثم هناك أحذية أخرى من فرط تشابهها يمكن القول إنها منسية، لكونها لم تترك ذائقة أو ذكرى ما، حضرت لتؤدي وظائف السير ومن دون مزيد، قد تختلف في ملمح ما لكن نمطيتها تصنع تشابه وظائفها في إحساسك بها سيراً، وبحيث لا يمنح لأي منها حضوراً مميزاً في درج الأحذية، هي فقط بدائل بعضها لبعض.
بعد كل تلك المراودات الفكرية سيأتي رنين الهاتف، سترد وتعيد النظر الطيب المتعاطف مع ذلك الكائن الذي يدخل في تعريف الجمادات، كما يخبرنا تاريخ العلم، وستبدي مزيداً من التعاطف معه، ثم في هدوء مسترخٍ تستخرج رباطيه وتعقدهما.

إعلان