إعلان

الحاجة "صيصة".. مقابلة رئاسية.. أم مثالية.. و"لسه لابسه الجلابية"

09:46 م الإثنين 27 أبريل 2015

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتب - محمد مهدي وإشراق أحمد:
تصوير-علاء القصاص

بعد ظهور "صيصة" –ذات الرداء الرجالي- في البرامج التليفزيونية، ومن بعدها لقاءها مع الرئيس عبدالفتاح السيسي؛ صارت السيدة الستينية حديث البلاد، خاصة مدينتها في الأقصر، يعرفها الكثير من المارة في الشوارع، يقتربون منها "عشان ياخدوا البركة"، يلتقطون الصور معها كأنها عَلم من أعلام البلد، حياة جديدة كُتبت لابنة "أبو دوح النمر" واهتمام حازت به لأول مرة في حياتها، غير أن شهرتها تلك ظلت تُعيد إليها سيرتها الأولى عندما كانت "مدفونة في الطين"، لا أحد يقف بجوارها، لا يساندها أو يدعمها بأي شيء، وتواجه شرور الحياة وحيدة.

رغم تغير الحال واطمئنانها على ابنتها، إلا أن "صيصة" ترفض خلع الجلباب الصعيدي، والعودة إلى الملابس النسائية "خلاص اتعودت على الجلابية.. برتاح فيها"، ماتزال تتذكر تلك الليلة التي دفعها فيها القدر إلى ارتداء الجلباب، كانت تجلس في أحد الشوارع، بليلة قاسية الأجواء، تحتضن طفلتها، تنتظر الفَرج الذي لا يأتِ، لا مأوى لها، ولا مال يكفيها شر الحاجة، زوجها رحل، وأسرتها فقيرة، حتى جاءها مَن يحتاج إلى رجل يعمل في صناعة الطوب "قولت ساعتها دراعي هو اللي هيعيشني"، قامت فورا، تخلصت من ردائها واستبدلتها بالجلباب وانطلقت إلى مكان العمل " الـ 1000 طوبة بـ 160 قرش".

عندما تُسأل الحاجة "صيصة" عن المرة الوحيدة التي اضطرت فيها إلى التخلي عن الجلباب، يبدو عليها الضيق "كنت حابة أفضل بالجلابية"، كانت في طريقها إلى البيت الحرام لأداء مناسك العمرة "روحت بملابس حريمي بس خنقتني"، تقولها بينما تُمسك بالجلباب "ماله ما زي الفل أهوه"، كأنه أصبح جزء من تكوينها، ترفض أن تلفظه، أو التقليل منه، أو اعتباره دخيل على ذاتها كأنثى.

تمسك الحاجة "صيصة" بصورة فوتوغرافية يتصدرها "عبد الفتاح السيسي" ومن حوله الأمهات المثاليات، تشير إلى وجوها بينهم، الجلي بأخر ركن بالصورة، بجلبابها الرجالي والعمة، تنظر السيدة الستينية للصورة التي باتت ذكرى تحتفظ بها في دفتر مقتنياتها، لم تتخيل يوما أن تصبح بين عشية وضحاها محط الأنظار، "صيصة قابلت الريس وسلمت عليه إيد في إيد" هكذا ذاع صيتها بين جيرانها وأهل قريتها، باتت كل خطوة لها يلحقها ترحاب أحدهم، "دلوقتي عرفتوا الحاجة صيصة؟" تحدث نفسها مع كل سلام يوجه إليها، تحب الجميع وتفرح لرؤية الناس، لكن الاهتمام بعد سنوات طوال كانت بها في مهب الريح يبعث في النفس رغما عنها هذا التساؤل.

كأنما حلم هو لقاء صاحب أعلى منصب بالبلاد، تهيأت له بجلباب أنيق "قلت لهم مش هروح غير بالجلابية والعمة"، وإن كان هذا لقاء وجه لوجه بالرئيس، غير أنه ليس أول تكريم لها "السادات بالسابق كرمني.. لما قال إن الأرامل تاخد بطاقة" كذلك تقول الحاجة "صيصة"، فالقرار الذي أصدره الرئيس الراحل بتخصيص معاش لمن مات عنها زوجها بالنسبة لها تكريم، "كان خمسة جنية إلا ربع" بذاكرة حديدية تتذكر المعاش الذي أتاها بوقت كانت في أمس الحاجة به لقروش وليس جنيهات.

رغم حياتها البسيطة التي قد تكون عذرا لها إن ظلت في عزلة عن حال البلاد، غير أنها على العكس حرصت أن تكون على علم بما يحدث، تربط أحداث مهمة في حياتها بوقائع مشهورة، حال أول يوم ارتدت به الجلباب يوم ما انضرب سيد زكريا –أسد سيناء- في السبعينات"، وتحفظ أسماء الرؤساء، فالسيدة التي جلد جسدها وطبعها بكت بحرقة على جمال عبد الناصر، كما فعلت حينما قابلت "السيسي"، وتترحم على أنور السادات "وبقرأ له الفاتحة كل يوم" جزاء ما فعل من تخصيص المعاش.

دعوات تتوالى على الحاجة "صيصة" للحضور إلى القاهرة سواء من برامج تليفزيونية أو شركات، تبغي تكريمها والالتقاء بها، لا ترد السيدة الستينية دعوة أبدا "مبحبش أزعل حد"، تقطع عشرات الكيلومترات من أجل فقط رؤية "الأحباب" كما تسمى كل مَن تلقاه ولو لم تعرفه، تجلس بين الجموع، تُلوح وترد التحية للمصفقين لها، تواصل سرد كفاحها.. هكذا غدت حياة "صيصة"، بعد أكثر من 40 عاما انقضت في العمل، من عامل صب إلى مزارع، وعامل إنشاء، وأخيرا ماسح أحذية.. أوقات صعبة عايشتها "كنت أقعد اشتغل 4 أيام عشان جنيه"، وأحيانا لا يتوفر عمل ولا ذلك الجنية "وقتها أرد بابي وافت لي لقمة أنا وبنتي إذا كان في"، وحينما لا يتواجد تأتي ببعض من قطع الخضار "واعمل أكلة جارفة "قرديحي" للبت".

خجل بدا واضحا على "صيصة" في أول لقاء تليفزيوني لها، لكن اليوم باتت أكثر إقبالا وتعاملا مع الحضور الذين لا تعرفهم، بتلقائية تتعامل، فلا تتردد في قطع الحديث، لتتلقي اتصال هاتفي من ابنتها "هدى" تطمئن عليها كعاتها في الصباح والمساء، ولا تنهي حديثها إليها قبل أن تعيد عليها وصيتها "لو مت متزعليش افرحي وكلي لحم والبسي أحسن لبس"، ثم تطلب منها سماع صوت أحفادها "الغالين؛ 5 أولاد أكبرهم وأقربهم لقلبها "أحمد"، حضورهم له فِعل السِحر في حياتها، وصوتهم كفيل بتحول نبرة صوتها الخشنة الحزينة إلى لين وفرحة "أيامهم غير أيام بنتي"، هم يعرفونها أنها جدتهم، أنثى رغم ملابسها الرجالي، لكن "هدى" ظلت فترة جائرة في طفولتها "كنت بقول لها وهي صغيرة أمك ماتت فتعيط"، والدة السيدة المكافحة عنفتها "قالتي حرام عليكي قولي لها الحقيقة"، فأخبرتها بأن كشفته لها عن صدرها "قولت لها أنا أمك.. راحت قعدت تعيط برده بس على أبوها" كلمات قالتها ضاحكة مع تذكر الموقف.

فستان أبيض بسيط "على قد الحال" ارتدته "هدى" في جلسة عائلية، لم تخل من "الهيصة" والفرح بالعروس، زوجت الحاجة "صيصة" ابنتها الوحيدة، ضحكت من قلبها وملئ ثغرها للمرة الأولى، لكنها لم تخلع عنها زيها، الجلباب والصديري الصعيدي والعمة، كانوا دليل على تعب الأيام وقسوتها على سيدة شابت من أجل ابنتها، فلو كان هناك أشد من الشقاء، لكان وصف أيام السيدة المسن، التي نذرت شبابها ورخاء معيشتها "كنت زي السودانية.. نزيهة وبلبس فساتين وايشاربات بعرعورة" بابتسامة تسترجع الأيام الخوالي في بيت أبيها، قبل أن تواجها مصيرها "ليالي ربنا لا يعيدها كانت طين"، ومع ذلك لم تستطع ترك عملها بعد أن أصبح بالبيت رجل "لو جوز بنتي قال لي اقعدي كنت طلقتها منه" بحزم تقولها السيدة الستينية.

الشقاء والعمل بات جزء من الحاجة "صيصة"، لا تقدر على التخلي عنه بعد تلك السنوات، فضلا عن يقينها أنه مصدر عزتها وما وصلت إليه الآن من تكريم وشهرة لم يكونا يوما بحسبانها، لذا حينما مَن الله عليها بكشك يمكنها العمل خلاله لم تتنازل عن صندوق مسح الأحذية "ده اللي خلاني صالبة" تقولها وتضرب بيدها الاثنين على رجليها.

الابتسامة التي لا تفارق حضور "صيصة" اليوم، كانت بأيام سابقة معدودة، وإن زاد الفرح شيئا ما بعد زواج ابنتها، فمع وصول الحفيد الأول "أحمد" ذاب قلب السيدة المسن، اطمأن قلبها، ابتسمت برضا لتكليل تعبها بـ"ستر" ابنتها في البدء، واستقرارها بتوالي "غزوتها" من الأبناء واحدا تلو الآخر حتى بلغو خمسة صبية، وأخر فرحتها، التي بعد مجيئها، باتت على صدر قائمة أيامها الهنيئة، هي قيامها بالعمرة "وزيارة النبي"، والتي كان تأثيرها عليها بالغ الأثر "وقتها زدت ووشي وسع".

"كشك" بموقف البياضية بالأقصر.. الآن أصبح للحاجة "صيصة" مِلك، ومن منطلق اِنساب الحق لأصحابه تصر على ذكر أن جمعية الأورمان منحتها إياه، بعد سنوات طوال افترشت بها السيدة المسن الطرقات لمسح الأحذية، ولا يحميها سوى علاقتها الطيبة بمن حولها سواء أصحاب "الكار" أو الفنادق، وكذلك الأمن، الذي لم يتعرض لها سوى ببداية عملها بالصندوق الخشبي.

كانت تجلس على الكورنيش حينما تعرض لها ضابط بشرطة السياحة "قلت له لو هتعملي بلاغ هروحك من هنا بإذنه هو" لم تكن تملك "صيصة" إلا الثقة والإيمان بما تفعل، توقن أن الله معها لأجل ابنتها، لذا كانت رودوها سريعة، حتى حين أخذها الضابط على قسم الشرطة، محررا لها محضر، لتُعرض على النيابة، كان لا يفارقها سوى دعاء "اللي ودوني على النيابة منهم لله"، وقد استجاب الله لها كما تقول، بدءً من وكيل النيابة الذي تعامل معها بود مكتفيا بتطبيق غرامة مالية عليها "قلت له لو هتغرموني هاخدها من جيبه.. هو أنتم ماسكيني متلبسة أنا بجري على بنتي".

10 جنيهات ونصف كانت الغرامة المالية، تتذكرها السيدة المسن جيدا، كما لا يمكنها إغفال ما حدث لدفع تلك الجنيهات التي لم تكن تملكها "الضباط دفعوهالي" وعادت "صيصة" منتصرة إلى مكانها "وظابط شرطة السياحة مقعدتش بعدها كتير" كما تقول.

لم تعد "صيصة" تقدر على العمل، طبيعة العمر تمكنت منها أكثر مما فعلت سنوات "الشقا"، لذا كانت فرحتها بـ"الكشك" لا توصف، "مش طمّاعة" تصف نفسها الحاجة "صيصة"، لم تطلب يوما شيء من أحد، تستحي من فعل ذلك غير أن بعد سنوات طوال قررت أن تبوح بأمنيات تستحي أحيانا كثيرة أن تقولها، فآخر ما ترجوه "شقة تجمعني أنا وبنتي وأحفادي".

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان