إعلان

رضوى عاشور.. أستاذة الأمل (بروفيل)

12:05 م الإثنين 01 ديسمبر 2014

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتب- رنا الجميعي ومحمد مهدي:

في أواخر مايو 1946، جلس رجلين أحدهما كهل، في الطابق الأول ببيت بسيط مطل على النيل بمنطقة المنيل، يحاول الأكبر سنا تهدئة الآخر، يهدهد توتره، يُشغله بالحديث عن الاسم الأفضل للطفل المنتظر، فيما كانت ابنته ''مية'' في الطابق الثاني تعاني آلام الوضع، قبل أن تصلهم صرختها، تتبعها صرخة أوهن لطفلتها التي حضرت توا إلى الحياة، يهرعان إليها، يتأملان الكائن الصغير الرقيق، يقول الجد لابنته وزوجها ''لنُسميها رضوى'' نسبة إلى جبل يقع بالقرب من المدينة المنورة، تضرب به العرب المثل في الرسوخ فتقول ''أثقل من رضوى''.

تربت ''رضوى'' في كنف والديها، المحامي العاشق للغة العربية المولع بالأدب العربي القديم، و''مية'' الأم التي تعشق الرسم، كثيرا ما وقفت الطفلة أمام لوحتان زيتيتان كبيرتان معلقتان أمام باب المنزل، رسمتهما والدتها قبل أن تتم العشرين، تتطلع إليهما في وله، ثم تتركهما وتنشغل بتصفح الكتب التي يقتنيها والدها.. تفاصيل بيت المنيل ألهبت الموهبة لدى الصغيرة، إتقان الكتابة، حُب الأدب، فصنعت سيرتها المجيدة في هذا العالم.

شهادتها الدراسية كانت تؤكد أنها طالبة نجيبة، لكن دائما ما كانت تُلحق بملاحظة أنها ''مطيورة'' تنسى أشيائها في المدرسة، تصطدم أثناء سيرها بباب أو حائط أو شجرة، تقول رضوى إنها وقعت ذات يوم في فناء المدرسة، وعندما سُألت ماذا حدث قالت ''اتكعبلت في نفسي''، هذا لم يعيق الطفلة عن التفوق في دراستها حتى التحقت بقسم اللغة الانجليزية بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وحصولها على شهادة الماجستير في الأدب المقارن.

تكتب رضوى حينما تدق الكتابة على أبوابها، تستوقفها، تدهشها، تربكها، فتبدأ دون خطط مسبقة، تسرد ما يأتيها عبر شخصيات تصنعها من الخيال تضفرها في نسج تاريخي، تحكي بها تاريخ أمة، وتدفع بفلسفتها الخاصة في الحياة عن الوطن والأمل ورؤيتها للمستقبل من خلال لغة بديعة، ورُغم هذا بدأت مشروعها الأدبي وهي على مشارف الأربعين بروايتها الأولى ''الرحلة.. أيام طالبة مصرية في أمريكا'' عام 1983، ومن بعدها عدد من الأعمال أهمها ''ثلاثية غرناطة والطنطورية وسراج وقطعة من أوروبا''، كانت تخشى الفشل فأضاعت على قراءها المزيد من الأعمال العظيمة في سنوات الخوف.

لم تتوقف يومًا عن الحياة، كانت رضوى عاشور تحب الحياة بما اتسع له قلبها الكبير، فاستطاعت أن تضم إليها حب الفلسطيني ''مريد البرغوثي'' يتبعه سؤاله الوجودي عن أرضه، يتراص بجوار واجبها تجاه مصر، فهي الأستاذة الجامعية التي شهدت جدران كلية الآداب بجامعة عين شمس، على دأبها وسعيها الدائم، صوتها الدافئ يبوح بحبها للمادة الإنجليزية التي ظلت برحابها طيلة عمرها، هي المادة التي درستها وعلمتها لأجيال.

لم تسكت عن قول الحق، هي المُعافرة دومًا ذي الجسد الضئيل، كان إصرارها أكبر من يديها الصغيرة، وبهاتين اليدين كان باستطاعتها هدهدة العالم وتأديبه أيضًا، لها من الصولات والجولات التي يعرفها أساتذة الجامعة وطرقات مكاتب رؤسائها، ضمن حركة 9 مارس تمكنت من التعبير عن رأيها في قضايا عدة، منها ما ذكرته بكتابها ''أثقل من رضوى'' عن رفض تواجد الأمن الجامعي بعين شمس.

جعلت رضوى من الأدب ساحتها الرحبة التي تنطلق من خلاله فتسع كلماتها الأرض وماعليها، تحدثت عن كل شئ، عن الأمل، السجن، اليأس، الحب، والقضية التي تكبر داخل الفرد، قلب رضوى الذي حمل همه داخله، قضيتها التي كفت العالم وفاضت، حبها لمريد البرغوثي الفلسطيني الذي كان وطنه الشتات، وتميم ابنها الشاعر الذي ناله بعض من هذه الفرقة، ووطنها الذي لم تعرف يومًا كيف السبيل لكرهه.

مريد زميلها بكلية الآداب الذي أحبته، ظلوا عمرًا كاملًا يحاربان طواحين الهواء معًا، لم يملوا، حُب ولّف بقلوبهم رغم البعد، ولدت تميم وهو بالمنفى، ظلت تحمله إليه على جناح طيارة ترسلهما للمجر، وتميم بعمر شهور، تربى الولد على العناد والعنفوان، ليصبح شاعرًا يبث قوته خلال كلماته ''يا شعب ياللى دفع تمن الشوارع دم، احفظ أسامى اللى ماتوا فى الشوارع صم''.

مرضت رضوى عاشور بورم في الدماغ، ذلك الورم الذي عافرت معه كما كانت تعاند كل شئ أمامها، لكنه هزمها فلجأت لمحاربته بالعمليات الجراحية، أخذ منها عدد من العمليات بأمريكا أثناء ثورة 25 يناير، كانت رضوى تخرج من عملية لتدخل أخرى، وبين ايفاقاتها القليلة كانت تسأل ''مريد'' ''العيال انضربوا ؟''، قاصدة شباب الثورة، حملت رضوى هم الثورة أيضًا كما حملت هموم كثيرة.

الأمل كان إحدى قضاياها الكبرى، خبرته مع أمور الحياة ليصبح رفيقها الدائم، مهما انقلبت الموازين كانت تحكي دومًا عنه ''أقول لنفسي: لا يصح أو يجوز لأنني من حزب النمل، من حزب قشة الغريق، أتشبث بها، ولا أفلتها من يدي أبدًا، من حزب الشاطرة تغزل برجل حمارة''.

ألفت كتاب ''أثقل من رضوى'' لتحكي فيه عن معركتها مع الورم والاستبداد، غيبها المرض أيام الثورة الأولى، والآن مع براءة الديكتاتور الذي هتفت ضده، رحلت هي عن تلك الأرض، لتعلو كنجمة ترشدنا كلماتها للأمل، ولتسكن في قبر لا وحشة فيها كما وصفت من قبل قَبر بطلتها مريمة في ''ثلاثية غرناطة''.

 

لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة للاشتراك ...اضغط هنا

فيديو قد يعجبك: