إعلان

الصوم وأثره في تحقيق السلم المجتمعي

الصوم

الصوم وأثره في تحقيق السلم المجتمعي

10:34 م الإثنين 11 مايو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم: د- أحمد ربيع حسان
عضو مركز الأزهر العالمي للرصد والفتوى الإلكترونية


دائما ما تحرص الدول على سن القوانين والتشريعات التي تكفل حفظ السلم داخل مجتمعاتها بما تضمنها من جزاءات صارمة تكفل لها الاحترام وحسن التطبيق، ومع ذلك كثيرا ما يتحايل الناس على تلك القوانين ويخرجون عليها، وما ذلك إلا لأن القوانين مهما بلغت صرامتها وقوتها في تحقيق الردع لدى أفراد المجتمع إلا أنه لا يمكنها أن تربي النفوس وتهذب الأرواح، وليس بإمكانها أن تخاطب الوجدان أو تغرس فيه معنى الرقابة الذاتية أو أن توقظ ذلك الضمير الداخلي لكل أفراد المجتمع، وليس من شأنها أن تحيي فيهم معاني الإنسانية وقيم الفطرة السوية، وهو ما ينجح الصيام في تحقيقه في نفوس الصائمين على مدار أيام الشهر؛ ذلك أن الصوم أول ما يقيمه في نفس المؤمن هو المراقبة الذاتية والشعور بالمسؤولية الفردية وصدق الطاعة في أدائه الأوامر الإلهية بإخلاص وصبر وتجرد، وخلق حالة من الصفاء النفسي والميل إلى أصل الفطرة السوية التي تجنح إلى الاستقامة و مسالمة الناس والبعد عن الانحرافات والانزلاق في براثن الخطيئة ومواطن الزلل.
ومما لاشك فيه هو أن أيام شهر رمضان ولياليه تضفي على المجتمع طابع السكينة والرحمة وتشيع فيه الألفة والمودة بين الناس، ويتحقق فيها هدوء نفسي على مستوى الأسر والمجتمعات المسلمة؛ فبقدومه يحصل السلام المجتمعي وتغشى الناس سكينة واطمئنان، وبحلوله يعم الرخاء الاجتماعي؛ فالفقير يطعم فيه مالم يطعمه في باقي أيام العام، والغني يغدق بماله في جهات البر رجاء قبول الله –تعالى- لصيامه وأعماله، وموائد الرحمن التي تقام في شوارع المسلمين وفي طرقاتهم العامة إطعاما للصائمين وتكريما لضيوف الرحمن تُعد مظهرا من المظاهر التي تكرس السلام في المجتمع المسلم، وتشيع روح المودة والألفة والتضامن بين الناس، الأمر الذي يجعل من هذا المجتمع نموذجا للتلاحم ورمزا للتراحم.
والحقيقة أن السلام الاجتماعي يُعد ثمرة من ثمار شهر الصيام؛ ذلك أن المسلم وإن كان منهيا عن اقتراف الذنوب والمخالفات سائر أيام العام فالنهي في حقه آكد في شهر التقرب إلى الله تعالى، ودائما ما يجد في نفسه ميلا إلى الاستقامة في سلوكه وتصرفاته، فينأى بنفسه عن مواطن الزيغ والانحراف ويبتعد بنفسه عن إيذاء الآخرين أو الإضرار بهم في نفس أو مال أو شعور، بل يجنح إلى معالم الفضيلة ومراتب الاستقامة ويترقى إلى القيم الاجتماعية الفاضلة؛ ذلك أنه إذا لم يكن من شأن الصيام أن يرتفع بالمسلم عن تلك الشهوات والانحرافات السلوكية من عنف وشغب وصخب واحتكار لأقوات الناس وتطاول على حرماتهم، فليس له من صيامه حينئذ إلا الجوع والعطش، فعن أبي هريرة –رضي الله عنه – قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
كما تتجلى قيمة الصيام في حفظ السلم داخل المجتمع وصيانته من شرور الجريمة بكافة صورها وأشكالها من خلال تحقيقه معنى الإمساك والامتناع لفظا ومعنى؛ فالصوم لغة مطلق الامتناع، وشرعا الامتناع عن الطعام والشراب والشهوة الحلال من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع النية، وهذا الامتناع يربي الصائم بكل مكوناته ومقوماته الحسية والجسدية والروحية والخلقية والاجتماعية، ويقوي فيه معنى الإحجام عما فيه نهي أيا كان مصدر هذا النهي وأيا كانت صورته، وإذا كان الصائم يمتنع عما أُحل له فامتناعه عما هو محرم عليه من انحرافات سلوكية وأخلاقية ونفسية تضر بكيان المجتمع وتهدر معنى الأمن والسلم يُعد امتناعا مؤكدا، فقد يخلو الصائم بنفسه مع ما به من جوع وعطش ومع ذلك يحجم عن مقاربة ذلك الحلال رعاية لصيامه رغم أنه في أصله حلال، وفي هذا أكبر دافع لابتعاده عن ارتكاب الجرائم التي تهدد سلامة المجتمع وتقوض استقراره، وما كان لذلك أن يتحقق إلا بفضل ما أثمره الصوم في نفسه من قدرة على الإحجام والوقوف عند الحدود المفروضة عليه، فيشب على احترام قيم المجتمع وقوانينه التي تحفظ النظام العام داخله، ويعتاد الانضباط وتألف نفسه الانصياع إلى القيود الحامية لوحدة المجتمع وسلامته واستقراره. ثم هو بعد ذلك ينكر كل سلوك مشين وذلك بعد أن استقامت فطرته وخلصت سريرته وذاق طعم التجرد وحسن الانصياع.
والصوم بلا شك يقوي الروابط الاجتماعية، ويجعل الإنسان يشعر بأنه جزء من ذلك المجتمع، وهذا يتحقق باجتماعه مع إخوانه في صلاة التراويح واعتكافه مع أناس ربما لا يعرفهم إلا رحاب موسم الطاعة فتصير بينه وبينهم مودة نبتت ثمرتها في رحاب شعائر شهر الصيام، وهذا يقوى لديه الجنوح نحو الانتماء المجتمعي فيحفظ له حقه ويصون له مقدراته ويراعي قدسيته.
ولئن كان مفهوم السلم الاجتماعي يتمحور حول ضرورة غياب العنف والمظاهر الاجتماعية السلبية فإن الصيام بما فيه من معان وما يربيه في نفوس الصائمين من تواد وتآلف يظهر في إطعام الطعام وإفطار الصائمين والإكثار من الصدقة والإقبال على مساعدة فقراء المجتمع ومستضعفيه فإن تلك المعاني تقرب الصائم من بني مجتمعه وتجعله يشعر بآلام الفقراء وعوز المحتاجين من جهة، ومن جهة أخرى عندما يرى إنفاق المنفقين وإقدام القادرين على البر والخير فإذ به يرى أجمل ما في المجتمع من معاني التكافل والتعاضد ويرى في أقرانه الذين يشاركونه هذا المجتمع لمسات الإحسان والتعاطف الإنساني، وهذا الشعور يكون دافعا ذاتيا نحو الوئام المجتمعي والسلام الجماعي، فتقل نوازع الحقد وتنطفئ نار الغيرة ويحصل الرضا بين سائر أفراد المجتمع.
ولا يخفى علينا ما يحمله قدوم شهر الصوم من جلب الصلح والرضا بين المتخاصمين على نحو تنطفئ معه جذوة الكثير من الخلافات؛ ذلك أن الناس يعظمونه ويعرفون له حرمته فيتغاضى كل خصم عما بدر من أخيه، وترى الناس يقبل بعضهم على بعض حبا وتآخيا بمناسبة حلول الشهر الفضيل، فيتناسى المتشاحنون ما كان بينهم من عداوة رعاية لصيامهم وتكريما لهذا الشهر الفضيل، بل يمنعه صيامه عن رد الإساءة بالإساءة بل بالعفو والصفح، ونجد الهدي النبوي الشريف يوجه المسلم إلى السلوك القويم الذي يجب أن يتحلى به حال تلبسه بالصيام وذلك في قوله- صلى الله عليه وسلم- " الصوم جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل إني صائم".

إعلان