إعلان

هوانم مصر.. عابرات الزمن

د. ياسر ثابت

هوانم مصر.. عابرات الزمن

د. ياسر ثابت
08:17 م الجمعة 29 أبريل 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

في قلب الإعصار المترحّل الذي نسميه الزمن، تلمع صور لنساء في مصر من مختلف الأطياف والمهن، ممن كُنَّ بحق هوانم مصر، العابرات للزمن، وصاحبات العصمة اللاتي نفخر بهن وبدورهن في تاريخ مصر الحديث.

في كتابه "هوانم مصر: فاتنات الزمان وساكنات الوجدان" (مركز إنسان، 2022)، نقرأ عن سعاد حسني وهند رستم ونادية لطفي، كما نطالع قصة حكمت أبو زيد وتوحيدة عبدالرحمن وليلى رستم وسميرة موسى وعبلة الكحلاوي. تنوعٌ ثري يُحسب للمؤلف أيمن الحكيم، الذي يكتب عن أم كلثوم -على سبيل المثال لا الحصر- أن ما فعلته أم كلثوم لصالح إعادة بناء الجيش المصري وتسليحه يحتاج إلى كتاب منفرد نحكي فيه تفاصيل تلك الملحمة الوطنية التي عزفتها أم كلثوم.. جندت نفسها وصوتها وشهرتها الطاغية لصالح الوطن وزعيمه.. قررت أن تكون إيرادات حفلاتها كلها من أجل تسليح الجيش واستعادة الكرامة الوطنية.

بدأت حفلاتها في دمنهور، واحتشد يومها 3500 مستمع دفعوا 39 ألف جنيه، وفي الإسكندرية تضاعفت الحصيلة فوصلت إلى 100 ألف جنيه بالإضافة إلى 42 كيلو من الذهب والمصوغات تبرعت بها نساء الإسكندرية إكرامًا لأم كلثوم.. وفي حفل طنطا بلغت إيراداته 283 ألف جنيه، وفي المنصورة 125 ألفًا.

ويحكي المؤلف أن أم كلثوم طارت لتغني في تونس والمغرب والسودان وليبيا ولبنان والبحرين والعراق وباكستان.. وفي الكويت جمعت بالإضافة إلى إيراد الحفل 60 كيلو من المجوهرات والمشغولات الذهبية.. وأقامت حفلين في "الأوليمبيا" أعظم مسارح باريس بلغت إيراداتها 212 ألف جنيه استرليني.

وبلغت الحصيلة الإجمالية لحفلاتها من أجل المجهود الحربي ما يزيد على ثلاثة ملايين دولار، ذهبت كلها لتسليح الجيش المصري (ص 25-26).

أما فاتن حمامة فيقول إنها لم تركن إلى موهبتها وحدها، بل بذلت من الجهد والدأب ما لا يطيقه غيرها. إنها تبدأ من الصفر في كل عمل، تنسى تمامًا رصيدها وشهرتها ونجوميتها، إنها الآن ملك الشخصية الجديدة، تحتشد لها وتُذاكرها وتجمع تفاصيلها كأي ممثلة مبتدئة، ولا تقف أمام الكاميرا إلا إذا شعرت أنها تلبّست الشخصية أو بالأدق تلبّستها الشخصية، فتعيش معها بكل جسدها وإحساسها.

ويحكي أيمن الحكيم ما حدث أثناء تصوير مشهد يجمعهما في مسلسل "ضمير أبلة حكمت"؛ إذ أوقفت فاتن التصوير وهي غاضبة ومحتدة بعدما فوجئت أن فنجان القهوة الذي يُقدِّم لها في بداية المشهد "مزيفًا"، مجرد مياه غازية غامقة اللون تؤدي الغرض، وهو أمر عادي ومعتاد في أغلب الأعمال الدرامية، ولكن فاتن أصرت على أن يُقدِّم لها قهوة حقيقية بل وساخنة، وكانت وجهة نظرها أن تعبيرات الوجه ستكون مختلفة والأداء أفضل، فلما همسوا في أذنها بأنه "البن" خلص، لم ترضخ للمبرر، وتمسكت بأن يتوقف التصوير حتى يشتروا كمية من البن على حسابها ويصنعوا قهوة حقيقية لرشفة لا تستغرق سوى ثانية من عمر المشهد!" ( ص 39).

وفي موقف آخر فوجئ الشاعر عبدالرحمن الأبنودي في شبابه باتصال من فاتن حمامة تستدعيه لمهمة عاجلة، وفي صالون بيتها قصت عليه حكاية فيلمها الجديد "أغنية الموت" (إخراج سعيد مرزوق، 1973) الذي تجهز لتصويره، ولأنها تؤدي شخصية امرأة صعيدية، فإنها جاءت به ليعلمها كيف تنطق الحوار كما تنطقه أي امرأة من الصعيد الجواني، ولم تكتف بمجرد السماع، بل طلبت منه أن يقوم أمامها ويؤديه بنفسه لتلتقط كل شاردة وواردة، وتتعلم منه حتى لغة الجسد وتعبيرات الوجه، ولما دخلت إلى الاستوديو لتؤدي دور "عساكر" المرأة الصعيدية التي تنتظر ولدها الشاب ليأخذ بثأر أبيه، وتوقف حياتها على الانتقام لزوجها المقتول، فإن الجميع في الاستوديو صدّقوا أنهم أمام "عساكر" وليس فاتن حمامة، وضرب توفيق الحكيم كفًا بكف لما شاهد الفيلم، فقد "لبست" فاتن الشخصية بأروع مما توقع (ص 40-41).

أما شادية، صوت الحب ومطربته، والنجمة الجميلة الرقيقة فتاة أحلام كل الرجال.. فقد فشلت في كل زيجاتها وقصص حبها!

يروي أيمن الحكيم أن أول «بختها» كان يكبرها بثلاثة وعشرين عامًا، وكان عندما أحبها متزوجًا ولديه ابن من زوجته الفنانة فتحية شريف، صحيح أنه كان نجمًا مرموقًا وله مكانته الفنية، لكن فارق السن الكبير بينها وبين عماد حمدي ظل حائطًا صلدًا لم يقدر الحُب على تجاوزه (ص 63).

لمعت شرارة الحب عندما التقيا في «قطار الرحمة» الذي جمع وفدًا من نجوم الفن طاف محافظات مصر لدعم ثورة يوليو 1952 في بداياتها ولجمع تبرعات لتسليح الجيش، وتزوجا بعدها بقليل أثناء مشاركتهما في تصوير فيلم «أقوى من الحب» على شواطئ الإسكندرية، لكن الغيرة سرعان ما تسربت لقلب عماد حمدي، وفوجئت شادية بأن الفنان الرومانسي الذي أحبته وتزوجته رغم فارق العمر يعاملها بقسوة لم تتصورها، وتحولت حياتها إلى سلسلة من المشاجرات والخناقات والخصام، ولم يصمد الزواج -غير المتكافئ- سوى ثلاث سنوات، وكان الطلاق الأول في حياتها في العام 1955 (ص 64).

وفي رحلة النسيان ألقت بنفسها في سهرات فريد الأطرش الصاخبة، ووجدت قلبها منجذبًا إليه، وأحبها فريد ووجد فيها «الأميرة» التي يبحث عنها، وبدأت أخبار حُب شادية وفريد تتسرب للصحف، وبات الزواج مسألة وقت، لكن فريد تأخر في تلك الخطوة التي انتظرتها شادية بفارغ صبر، وتعددت سفرياته إلى خارج مصر، واستغرقته دوامة العمل، ولم تترك شادية لقلبها العنان كثيرًا، فأدركت أن فريد الأطرش رغم صفاته النبيلة وطباعه الرائعة هو مخلوق لا يصلح للزواج والاستقرار، وأن حياتها معه محكوم عليها بالفشل، فلن تجد ما تبحث عنه من بيت وأولاد واستقرار وهدوء نفسي في ظل حياة فريد الصاخبة وسهراته اليومية وبيته الذي لا يخلو من «الشلة» وعقله المزدحم بالمشروعات الفنية والسفريات، حيث لا مكان ولا متسع لزوجة.. ولو كانت شادية (ص 64).

وحتى لا نظلم فريد الأطرش، لا بدَّ أن نشير إلى أنه أحبَّ شادية بصدق وكانت رغبته في الزواج منها حقيقية، وفي مذكراته كتب نصًا: "كانت شادية أول مخلوقة أقول لها: سوف أتزوجك، فأيام سامية (جمال) لم أكن مقتنعًا بالزواج، وأيام ليلى الجزائرية وضعت الشرط أولًا: حب بلا زواج، وأيام ناريمان (الملكة) نما التفكير في رأسي واستقر ولكني لم أعلنه، لم أذهب إليها وأقل لها لأن أمها قطعت كل الوشائج قبل هذا.. شادية إذن هي الأولي، وبالاقتناع كله أقدمت" (ص 64).

لكن غلطة فريد أنه تأخر كثيرًا، ولما طال تردده وغيابه وسفرياته، عاد فريد من باريس ذات مرة ففوجئ بأن شادية تزوجت من مهندس الصوت عزيز فتحي. وبعد ثلاث سنوات قضتها في تجربة زواج صعبة، انفصلت شادية عن زوجها الثاني في يونيو 1959.

وبعد «هدنة» وصلت إلى خمس سنوات دخلت شادية تجربة زواجها الثالث والأخير، وكانت أطول زيجاتها وأقربها إلى قلبها، وهذه المرة من الممثل صلاح ذو الفقار. أن النجم الشهير كان متزوجًا وله أولاد من زوجته «بيسه» أم ابنته المحامية الشهيرة منى ذو الفقار. إلا أن الزواج انتهى بعد عدم اكتمال حلمها بالأمومة (ص 66).

كانت شادية سعيدة على الشاشة، تعيسة في الحياة.

من الطرائف أن شادية تلقت ذات مرة دعوة للغناء في العراق، في حفل برعاية الرئيس العراقي صدام حسين. أدت فقرتها المتفق عليها وعادت إلى حجرتها في فندق «شيراتون عشتار»، وكانت على درجة من الإرهاق لحد أنها نامت فورًا دون أن تتناول عشاءها، وما إن استغرقت في النوم حتى فوجئت بمن يطرق باب غرفتها بإلحاح، فتحت وهي نصف نائمة ففوجئت أنه مندوب من قبل وزير الإعلام العراقي لطيف نصيف جاسم يرجوها بأن تعود فورًا إلى الحفل بناء على أمر من صدام حسين!

لم يكن لديها اختيار، وفي الطريق بدأت الصورة تتضح والمعلومات تتوالى، فقد وصل صدام الحفل متأخرًا ولما عرف أنه قد فاتته وصلة شادية طلب أن تعود لتغني من جديد، ولم يكن صدام يومها يرد له طلب، بل إنه حدد الأغنيات التي يود أن يسمعها منها: والله يا زمن، اتعودت عليك، أجمل سلام (ص 68).

وفور وصولها ذهب من يهمس لوديع الصافي بأن ينهي وصلته في أسرع وقت، وعادت شادية إلى المسرح بعد أن غادرته في واقعة لم تصادفها أبدًا في مشوارها. سوء حظها جعل صدام حسين يتأخر عن فقرتها.. هي بالذات، فيطلب أن تعود للغناء هي بالذات!

إعلان