إعلان

أشياء العالم.. "قصتان"

د.هشام عطية عبدالمقصود

أشياء العالم.. "قصتان"

د. هشام عطية عبد المقصود
07:07 م الجمعة 23 يوليه 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

شمس خافتة دافئة تشغل ثلث مساحة المنضدة تاركة ما تبقي لتسكع الظل، شكل السور المنخفض الذي يصنعه تجاور شجيرات قصيرة تحيط بالامتداد الخارجي للمقهى تضفي طمأنينة وهدوءًا محببًا، مقاعد قليلة متباعدة يشغلها الجالسون، ما زال الوقت مبكرًا، تلذذ بطعم القهوة، عندما بدأت نثار قطرات المطر ترسم لوحتها على الأرضية قال واثقًا: هذا المكان هو حديقة الناس الذين تألفهم.

عندما يأتي المطر..

جاء المطر وملأ الشوارع بلمعته وغسل واجهات البيوت فمنحها حياة أخرى، ثم إنه صنع رائحته، رائحة المطر؟!، نعم للمطر رائحة قديمة أقل في العمر من تاريخ ميلادك ومقاربة لتاريخ وعيك بالموجودات، هي تحديدًا في عمر قدرتك على وصف الأشياء من الذاكرة، تخصك تمامًا، ثم الأهم أنك يمكن أن تدركها، ولو أنكرها كثيرون ممن حولك.

يقينًا هناك رائحة للمطر يحبها، ويعرفها البعض، كثيرون منهم ربما ما زالوا أطفالًا، وقد وعيتها منذ أدركتها، وهي تصاحبك في كل أوانٍ للشتاء، أن تصفها، فالأمر يحتاج إلى مزيد من محاولات، يمكن مثلًا القول إنها تشبه شرفة تطل على فضاءٍ واسعٍ، أو حديقةٍ مخضرةٍ بالعشب تمتد حتى تتلاقى الأرض بالسماء، ثم الأهم أن لها رائحة خاصة، أو هي مزيج من روائح مختلطة، تضم شيئًا قديمًا يأتي من طفولتك.

يشتاق كل منا أحيانا إلى رائحة المطر التي يعرفها، حين يأتي الشتاء، ولا يأتي المطر معه، أو يتمهل قليلًا، أو يمتنع، يعتقد داخله وهو دون أن يقرأ ذلك أن علم الفسيولوجي سيقول إن الإنسان يفقد كثيرًا من طاقته وبهجته حتى تبادره رائحة المطر، ويضيف كما يتصور أنها تمنح الأرض لحظات بدايتها الأولى، فتعيد ربط وجودها الفلكي بالكواكب الناعسة في المجرة الكبيرة، تلك الكواكب التي لم تكتشفها التليسكوبات العملاقة، ولم تصلها السفائن ذات البشر، ربما هكذا قال عالم ما كما أظن، وطبعا لا أتذكر أين، والدليل! لا دليل سوى ذلك الإحساس في داخلك مستقرًا، نعم الإحساس الذي يصنع روح البشر، ويميز بينهم أيضًا، ويصنع تاريخ الأحوال في الدفاتر البشرية.

أمضى وقتًا مطولًا يبحث عن رائحة يحبها، رائحة المطر، مضى متيقنًا من وجودها في مكان ما، وأنها لا شك ستفاجئه عبر رسالة في صباحٍ مبكرٍ، أو في الندى المتلألئ على أوراق شجرةٍ مجاورةٍ، أليس هو مطر في الأصل؟ وفقط لم يتأنَ؛ ليتتابع كمطر، أو ربما تكون هناك داخل زرقة السماء التي تطل على كامل البحر، أو يمكن أن تكون هي كل تلك الأشجار في الحدائق تنتظر، وربما صارت ظلًا يمنح المسافرين المتعبين شيئًا من الود المجاني، لكنها تظل دومًا موجودة هناك، تلوح مثلما النسائم التي تحمل رائحة من نحب.

يوم جديد..

كيف تعرفون تغير الأيام يا أهل تلك المدينة الغريبة البعيدة؟، كان يطلق السؤال كلما هم ملولا بإزاحة الستارة الداكنة الثقيلة التي تغطي كل مساحة الشباك؛ ليعرف أنه لا جديد، ما زال لون السماء غائمًا، متى تشرق الشمس هنا؟، يتواصل الجو على هذا النحو ليس نهارًا تمامًا، ولا مساء تمامًا، فقط بين بين، ضوء يشبه ما قبل الغروب يحتل كل مساحة الليل ويمضي معه.

يقولون إن ذلك الانطباع الأول يحفر وجوده ويبقى، يعتبر الآن ذلك مطلقات أنهاها ما حدث وعرفه بعد ذلك، كان ذلك في الثامنة صباحًا، حين أخذ يعلو صوت التليفون الأرضي في نغمٍ متصاعدٍ، وعندما أجاب صار من يومها يعرف معنى أن يبدأ يومًا جديدًا في توفيت يخصه ويؤرخ له، لن يكون له صلة بتغير لون السماء مع مرور الساعات، ولا بما تحمله مواقيت الشهور تعلن مرور الأيام، فقط إحساس ما، مؤكدًا لنفسه أن هذا هو التعريف الجدير بيوم جديد آخر.

يستقبله المقهى الصغير في الشارع الجانبي، حيث عدد محدود من مقاعد تتناثر في فوضى لا ينقصها انتظام تكتشفه الحواس على مهل فيبهج العين، ثم فنجان القهوة الذي لا يغادر مذاقه الفم، وفنجان آخر، من أين يبدأ الكلام؟، يظهر السؤال كعصفور يتقافز دون جهدٍ كبيرٍ، لا يمضي وقت طويل حتى يبدأ السير في تلك الشوارع الصاعدة الضيقة التي تحتفي بشرفات أثرية تزينها الزهور، وتقبع أسفلها محلات الفاكهة والمقاهي الصغيرة التي تفتح بابها بلافتة تحية ملونة بطباشير أبيض على أرضية رمادية، كان كل شيء يصنع -رغم برودة الجو الظاهرة- دفء الأمكنة.

إعلان