إعلان

المدهشات القديمات.. تلك الأفلام التي أرخت طفولتنا

د.هشام عطية عبد المقصود

المدهشات القديمات.. تلك الأفلام التي أرخت طفولتنا

د. هشام عطية عبد المقصود
07:33 م الجمعة 21 مايو 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كان التليفزيون المصري حينها قناتين فقط، القناة الأولى والقناة الثانية، والمعروفتين حينئذ بالقناة رقم خمسة والقناة رقم تسعة، ولا أتذكر تحديدا سبب التسمية الرقمية التي شاعت حينئذ للقناتين، وربما كان ذلك ارتباطا بطبيعة المؤشر اليدوي المستدير في واجهة التليفزيون، والذي نحدد به قناة التليفزيون التي نرغب في مشاهدتها منهما- وقبل ظهور الريموت بعقود- فقد كان مؤشر القناة الأولى يقع على الرقم خمسة والقناة الثانية على الرقم تسعة في دائرة المؤشر الصلب الذي نحوله يدويا، وبينهما أرقام أخرى إذا وقف المؤشر عليها لا تشاهد شيئا، وفقط تسمع صوتا أسميناه "وشا"، بما يعني عدم وجود إرسال تليفزيوني

قناتان ليس لهما بديل ولا عنهما حول، وحيث لا فضائيات ولا إنترنت أو هواتف ذكية تعمل به، تلك حقبة طفولتنا في أوائل السبعينات، وحيث كان التليفزيون الأبيض والأسود هو الموجود في أغلب البيوت وحتى نهاية السبعينيات، حيث بدأ اتساع انتشار التليفزيونات الملونة لتكون ظاهرة تكبر رويدا في بيوت الطبقة الوسطى المصرية، بينما بقي التليفزيون الأبيض والأسود قائما، طوال ما يقرب من عقد تالٍ من الزمان، بكثافة ملحوظة في المنازل أيضا.

كان أصعب شيء في مؤشر التليفزيون اليدوي هذا، لمن هم في عمر الأطفال، أن يتم توظيفك بلا أجر أو شكر معا- هكذا كان شعور الأطفال المشاغبين- لتكون المعني بإدارة المؤشر، فأنت الأسرع والأكثر رشاقة، ثم الأصغر سنا، وبينما هما قناتان وحيدتان، لكن لا تقف الرغبات عن التحويل بينهما لدى كل مستجد أو قادم لغرفة المعيشة التي يقبع بها التليفزيون "واثق الجلسة ملكا".

وكانت البيوت مفتوحة على آخرها في مختلف أوقات الصحو لاستقبال الأصدقاء والجيران، بل وأصدقاء الجيران وكل من يرد من الأهل من قريب أو بعيد، ويكون إحساس الملل متصاعدا عند هذا الطفل، خاصة في فصل الإجازة المدرسية، أنه موجود من أجل أن يستجيب مؤدبا ومهذبا معا لتلك النداءات التي يطلقها كل من حل في الغرفة وجلس وجاء إليه الطعام أو الشاي، ثم نادى موصول الرجاء: "ما تشوف القناة التانية فيها إيه".. كم يرن هذا النداء الآن صافيا وسائغا وهو يحمل أصوات المحبين؟!

هكذا عشنا المشاهدة التليفزيونية لمباريات كرة القدم بالأساس، والتي غالبا ما تنتهي بأن يفوز الأهلي ويصعد الجار البعيد إلى أعلى منزله فوق "السطوح" ليودع الفضاء طلقة من مسدس الصوت القوي ابتهاجا.

وأحببنا إضافة لذلك مشاهدة الأفلام، والكوميدية منها خاصة، وحيث كم يبدو الآن الحدث والتاريخ قريبا نسبيا في الزمان، وبعيدا جدا بمقاييس ما طرأ على جميع مظاهر الحياة وسلوك البشر، وهي فترة زمنية شهدت تسارعات ربما تعادل كل ما أنجزته البشرية منذ وجودها على الأرض تطورا ترك أثره على الأجيال التي عاشت أو لحقت بعضا من تلك التحولات المتسارعة.

عبر هاتين القناتين الوحيدتين اللتين تغلقان إرسالهما مبكرا نسبيا، ربما عند منتصف الليل أو بعده بقليل، شاهدنا أفلام السينما وما أحببناه من محتوى مبهورين به. وحين كان مؤشر ساعة الحائط يصل إلى العاشرة مساء تسمع تناديات الأهل المألوفة بأنه "ياه احنا سهرنا النهارده قوي".

قناتان هما نافذتنا على عالم الخيال والدنيا البعيدة عن عيوننا، كنا نعيش على هواء بثهما، وفق تقديرنا لجاذبية ما تعرضه كل منهما، وحيث كان الراديو هو نجم النهار حضورا، منذ أول شخص يستيقظ مع ظهور الخيط الأبيض من الفجر وحتى قرب وقت الغروب، دائرا بشكل مستمر يتابعك صوته في صالة البيت أو المطبخ، ثم ليأخذ التليفزيون منه مساحة التحلق حوله مسلسل ونشرة أخبار فقط في الأيام الدراسية، وقد يمتد ذلك إلى فيلم السهرة وما غيره مساء أيام الإجازة الصيفية، هكذا كانت الحياة خيالا هي الأفلام الأبيض والأسود.

اعتدنا وتابعنا أفلاما رأيناها مفضلة تجلب حضورنا وصخبنا وضحكنا، ثم يتبعها حفظنا للجمل والإفيهات التي اشتهرت بها تلك الأفلام، مع عدم الاهتمام كثيرا بتلك الزاخرة بالميلودراما وجرعات المآسي، فقد كانت موضعا لتندرنا بمبالغاتها، والأهم لأننا كنا نحزن كثيرا ونحن نرى أمهاتنا تتفاعل معها ببكاء جم، وكم كان ذلك عزيزا علينا فكرهناها وتجنبناها!

أعادت لنا أوقات الاحترازات من كورونا وتجنب النزول من البيوت، وعبر عامين، كثافة القراءة والمشاهدة والاستماع. بدأت بمتابعات عشوائية بطريقة أو أخرى، ثم تم رويدا بناء منهج لها، لتبدأ نوستالجيا متابعة ما فاتك من الإنتاج السينمائي العالمي خلال حقب زمنية لم يكن متاحا لك مشاهدة أفلامها، لتبدأ بإنتاج حقبتي الستينيات والسبعينيات، فأفلامهما العالمية جميعها أو أغلبها لم نرها من قبل.

ستجد قائمة كبيرة ممتدة، وبالطبع الإنتاج الأكثر غرازة أو على الأقل الأكثر إتاحة هو للسينما الأمريكية، ثم تلك الناطقة بالفرنسية والإسبانية والإيطالية وغيرها، ستشكل قائمة ما ترى أنك اختبرت مبدئيا توافقها مع تفضيلاتك وتضعها كأهداف رؤية محتملة ومتتالية كلما أتيح الوقت.

لكن كم ستكون المفاجأة ثقيلة حين تباغتك مشاهدة بعض الأفلام الأمريكية والإيطالية الأقدم تلك! وخاصة الكوميدية منها فتجد تقاطعات التشابه في الموضوع والشخصيات حينا، وبعض الحوارات والمواقف حينا، بل وحضور أسماء بعض الشخصيات التى كنا نتندر على اسمها لغرابتها عن البيئة المصرية واستخدمناها مجالا للمزاح بيننا من غرابتها، فتجد أن بعضها كان حاضرا في تلك الأفلام. سيباغتك ذلك بدهشات تقلق استسلامك الجم الطيب لما عرفته طفلا في بعض أفلام الأبيض والأسود، وخاصة الكوميدية التي عشنا بها زمنا رحبا، وأعدنا مشاهدتها بلا ملل.

ستحاول أن تعمل بعضا من رؤية متمهلة تتوافق مع أن ذلك ربما يكون مقبولا طالما أشارت تلك الأفلام للاقتباس مثلا– وطبعا لست واثقا دوما من دقة حدوث ذلك– وأن ذلك ربما يكون مفهوما بدرجة ما ويعبر عن مرحلة من تأثر السينمات الناشئة عالميا في البدايات بالصناعة والثقافة السينيمائية الأكبر والأشهر عالميا، وما غير ذلك، لكن كل تلك التبريريات لن تسوغها ذاكرة نفسية طفولتك وتاريخ دهشتك قبولا أبدا.

ستشعر أن شيئا ما تم اقتطاعه عمدا من ذاكرة أشياء طفولتك، وأنه لن يمكنك مهما حاولت أن تعود لمشاهدتها بالدهشة ذاتها وطزاجة الاستقبال في كل مرة تعبر مرورا فترى تلك الأفلام على الشاشة.

إعلان